مختصر ابن عاشور
{فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}(آل عمران:20)، المحاجة فعلها في العربية لا يأتي إلا بصيغة المفاعلة، ومعناها المخاصمة وأكثر ما يستعمل فعل “حاج” في معنى المخاصمة بالباطل، والمعنى فإن خاصموك مخاصمة مكابرة فقل أسلمت وجهي لله.
والمقصود بهؤلاء الذين يحاجون، هم نصارى نجران، وقد أوحى الله للرسول ولقنه كيف يجيبهم بهذا الجواب، وأطلق الوجه هنا على النفس، هذا أمر بالإعراض عنهم، فلا زيادة لبيان الحجة غير هذا، فإنكم لم تقتنعوا فلا فائدة في الاستمرار في زيادة الأدلة النظرية، فأنتم مكابرون منكرون للضروريات والبديهيات، فالمحق في هذا السياق ابتلي بالمبطل اللجوج كما قال الرازي.
فقوله تعالى لنبيه: “قل أسلمت وجهي لله” قطع للمجادلة التي لم تعد تجدي شيئا، ومن اتبعه يسلم وجهه لله أيضا.
وأمره الله أن يقول لهؤلاء النصارى وللمشركين أيضا هل تسلمون؟ ومعنى هذا أنه إذا قطعت المجاحة فإن الدعوة إلى الإسلام لا تتوقف ولا تترك، وهذا الحجاج هو الذي جرى بين الرسول ووفد نجران.
ويرى ابن عاشور أنه إذا حاجوك في المستقبل فقل لهم قولا فصلا، يفصل بين الدين الذي أرسلت به، وما هم به متدينون، ومعنى “أسلمت وجهي لله”: أخلصت عبوديتي له، فلا أوجه وجهي إلا إليه لا إلى غيره.
فالاستفهام مستعمل في التخصيص كقوله تعالى:{فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ}(المائدة:91)، واستعمل بصيغة الماضي للإشارة إلى أنه يرجو تحقيق إسلامهم كأنه حاصل في الماضي، فإسلام النفس لله، هو جوهر الدين يترجم عن حقيقته اسمه، وهو إسلام الذات كلها، لتكون أعمالها كلها لمرضاة الله، وهذه العبارة “أسلمت وجهي لله” جامعة لمعاني الإسلام، وأصوله يمكن حصرها في معاني عشر.
1- تمام العبودية لله تعالى، والمشرك لم يسلم وجهه لله تمام التسليم.
2- إخلاص العمل لله، فلا يراعي الإنسان في عمله غير الله، فلا مراءاة، ولا مصانعة فيما لا يرضي الله، ولا يقدم مرضاة غيره على مرضاته.
3- إخلاص القول لله، فلا يقول ما لا يرضي الله، ولا يصدر عنه مالا يأذن به الله، فتكون الصراحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حسب الطاقة، والتصدي بالحجة لتأييد مراد الله، يندفع بذلك النفاق والملق.
4- أن يكون الإنسان ساعيا باحثا ليتعرف مراد الله من الناس، لتجري أعماله على وفقه بالإصغاء إلى دعوة الرسل وتلقيها بالتأمل في صدقها، والتمييز بينها وبين الدعاوى الباطلة، بلا مكابرة، ولا إعراض بداعي الهوى.
5- امتثال ما أمر الله به، واجتناب ما نهى عنه، والمحافظة على اتباع ذلك بلا تحريف، وأن يذود عنه من يريد تحريفه أو تغييره.
6- إلا يجعل لنفسه حكما مع الله فيما حكم به، كما قال الله تعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}(الأحزاب:36).
7- أن يكون طالبا لمراد رسول الله مما أشكل عليه، وإلحاق النظائر بنظائرها بالاستنباط الصحيح، والإجهاد الواضح في دلائله، ولذلك جعل علماء الإسلام التفقه في الدين والاجتهاد فيه داخلا في التقوى التي أمر الله بها في قوله:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}(التغابن:16).
8- الإعراض عن الهوى، والقول بغير سلطان ولا حجة{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ}(القصص:50).
9- أن تكون معاملة أفراد الأمة فيما بينها وجماعاتها، وكذلك معاملتها مع الأمم الأخرى جارية على مراد الله تعالى من تلك المعاملات من العدل والاستحقاق.
10- التصديق بما غيب عنا، مما أنبأنا الله به من صفاته، ومن القضاء والقدر، وبأن الله هو المتصرف المطلق في نهاية الأمر، وهذا الاستفهام الموجه لهم يشير إلى أنهم لم يحصلوا على هذا الإسلام لوجه الله وحده، فالمشركون أبعد الناس عن هذا المعنى، واليهود إن لم يشركوا بالله، فإنهم نقضوا أصول التقوى، سفّهوا الأنبياء، وقتلوا بعضهم، وغيروا الأحكام تبعا للهوى، وعبدوا العجل، وكذبوا محمدا صلى الله عليه وسلم دون النظر في دلائل صدقه، قوله:{فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ}، أي فإن التزموا بمعنى أسلمت وجهي لله، فقد اتبعوا الهدى، وما عليهم إلى تلقي ما بلغهم عن الله من الحق، لأن ذلك أول معاني إسلام الوجه لله، وإن تولوا وأعرضوا فإنما عليك البلاغ، فلا تحزن أيها الرسول إن لم ينقادوا إلى الحق، ولا تظن أنك مقصر، فأنت لم تبعث إلا للتبليغ، لا إجبار الناس على ما جئت به، وتحصيل اهتدائهم.
وقوله:{والله بصير بالعباد}، أي أنه مطلع عليهم تمام الاطلاع، وهو الذي يتولى جزاءهم، ويعلم أنك بلغت ما أمرت به.
21- {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}، هذا بيان بعض أحوال اليهود المنافية لإسلام الوجه لله، وقد عرفوا في التاريخ بهذا، ووصفهم القرآن بها في مواضع كثيرة، وكانت الأفعال في بيان أحوالهم بصيغة المضارع للدلالة على استحضار الحالة الفظيعة، وليس المراد التجدد، لأنهم قتلوا الأنبياء، وقتلوا الذين يأمرون بالقسط في زمن مضى، والمقصود بذلك يهود العصر النبوي، لأنهم يعتقدون سداد ما فعله أسلافهم، فقد قتلوا زكريا لأنه حاول إنقاذ ابنه يحي من القتل، وقتلوا يحي بسبب إيمانه بعيسى، وقتلوا النبي إرميا بمصر، وقتلوا النبي حزقيال لأنه وبخهم على سوء أفعالهم، وزعموا أنهم قتلوا عيسى، وإن كانوا كاذبين، فإنه معدود عليهم بإقرارهم، ونشر منشا بن حزقيال ملك إسرائيل النبي، أشعياء بالمنشار، فأزهق روحه، لأنه نهاه عن المنكر والفساد، ولم يحمه أحد من بني إسرائيل، وقتلوا كثيرا من الذين يأمرون بالقسط، فهي معدودة عليهم لأنهم رضوا بها.
والمقصود بقوله: “بغير حق” زيادة تشويه عملهم وفظاعته، واستعمل “فبشرهم بعذاب أليم” بمعنى أنذرهم تهكما، وكل من يفعل ذلك فجزاؤه أن يعلم أن جزاءه عذاب أليم، وذلك لأن التبشير هو الإخبار بما يسرّ، ولكنه استعمل بمعنى مضاد، وهي استعارة تهكمية عند البلغاء.
22- {أُولَـئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ}، حبطت أعمالهم بمعنى ذهبت ثمرتها النافعة من الثواب في الآخرة، والحياة الطبيعية في الدنيا، وأصل كلمة الحبَط انتفاخ في بطون الإبل من كثرة الأكل يؤدي إلى موتها، مع أنها أكلت ما أكلت للإلتذاذ به، فهؤلاء لما كفروا بالله فقد ارتدوا عن دينهم فاستحقوا العذاب الأليم، وليس لهم من ينقذهم من هذا العذاب. وحرف “من” دالة على العموم نصا، فلا مجال للتأويل.
23- {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ} هذا تعجب من شدة ضلال اليهود، فهذا الاستفهام تقريري وتعجيب، لدخول الاستفهام على نفي الفعل، ويقصد بذلك الإقرار بالفعل، والرؤية بصرية، لأنها متعدية بحرف إلى، وإن كان الزمخشري جوّز أن تكون الرؤية قلبية أو عقلية، وتكون “إلى” داخلة على المفعول الأول، لتأكيد اتصال العلم بالمعلوم، ويزيد التعجيب من حالهم أنهم على علم بالكتاب، وهو من شأنه أن يصدهم عن أفعالهم السيئة، ومقاصدهم الفاسدة، والمراد بالكتاب التوراة، ومن جاءهم وهم اليهود، وأوتوا هذا النصيب القليل لأنهم لا يعلمون منه إلا شيئا يسيرا، أو لما دعوا إلى كتاب الله وهو القرآن للنظر في معانيه ومقاصده ليحكم بينهم أعرض فريق منهم، ولم يرعوا، ويستمر في الإعراض والتولي، فكيف يتولون بعد أن أوتوا الكتاب؟ ويدل فعل: “يتولون” على التجدد في هذا التولي عن التحاكم إلى كتاب الله، والتولي يدل على الإباء والنفور مجازا، وأصله الانصراف عن المكان، “وهم يعرضون” جملة لتأكيد القولي.
24- {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ}، إنهم فعلوا ذلك كله لزعمهم أنهم آمنون من العقاب إلا أياما قليلة، ولم يكترثوا باتباع الحق لأنهم اعتقدوا النجاة من عذاب النار، وهذا ما جرّأهم على الإعراض، ولا دليل لهم على هذا الاعتقاد المدلس المفترى.