يقولون أهل مكة أدري بشعابها، وهو لعمري صحيح، ونحن نقول إن حركة النهضة في تونس الحبيبة، أدرى بالوضع السياسي ومآلاته من غيرها، لكن باعتباري متابعا للشأن السياسي والفكري في عالمنا العربي والإسلامي، ومحباً أيضاً لأهل تونس، وللحركة الإسلامية فيها، ولشيخها المفكر المستنير راشد الغنوشي، أردت في هذا المقال أن أقف موقف الناقد المبصر، لأقرأ موقف الحركة والواقع السياسي الجديد في تونس، بعيداً عن الحالة الانفعالية، مبدياً تساؤلات صارمة وحدية أرى ضرورة الإجابة عنها، قبل أي تفسير أو تأويل يمكن لحركة النهضة أن ترد به عن حالة النقد التي وجهت لموقفها السياسي الذي بدا هزيلاً وضعيفاً غاية الضعف، وخصوصاً أن الحركة بقيت جزءً من التركيبة السياسية الجديدة التي تحكم تونس اليوم، ولو أنها تركت الحكم نهائياً لكان موقفها أكثر انسجاماً مع مبادئها ومشروعها السياسي، لكن أن تكون الاستجابة بهذا الشكل المفرط لمطالب المشروع العلماني المدفوع من قوى دولية تحارب المشروع الإسلامي في كل مكان، وأخرى إقليمية -للأسف الشديد- لا نعرف ماذا تجني من عدائها للإسلام والحركة الإسلامية، فهذا ما يجعل كل التساؤلات وحتى الاتهامات للحركة مشروعة، لكن ما يدعو للعجب والاستغراب هو حجم الميوعة الفكرية التي أصابت التيار الإسلامي بوجه عام، وحركة النهضة في موقفها الأخير بوجه خاص، فقد أصرت على وصف موقفها المتهافت بالموقف الناجح، وتصر أيضاً على أنه انتصار للديمقراطية وللثورة، ديمقراطية حركة العلمنة المربوطة بالدوائر الغربية، الديمقراطية التي تضعها عنواناً لمشروعها السياسي، لكن تحاربها بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة عندما تكون في صالح الإسلاميين، كما حدث في تونس ومصر، ومن أعجب العجب أيضاً، أن يكون الدستور التونسي الجديد، الذي جاء بعد الترتيب الجديد للوضع السياسي الذي اشتركت فيه قوى دولية وإقليمية بالتحالف مع ثلة العلمنة الخبيثة هو أعظم وثيقة دستورية، بعد وثيقة المدينة كما صرح بذلك الشيخ الغنوشي، ولا نعرف هل الشيخ فيما يقوله، يسوغ موقفه الهزيل هذا بعناوين كبرى، تجعل المسلم التونسي البسيط يتقبل موقف الحركة، بشيء من الرضا والقبول، دون أن يبدي رأيه الحقيقي المفروض أن يكون ملتزماً به، لأن المواطن التونسي البسيط -كما نعلم جميعاً – لم يختر الانتخاب على حركة النهضة، إلا لأنها وعدته بتطبيق الشريعة، أو في أسوء الأحوال التزام بالثوابت الوطنية، والانتماء الحضاري، لكن الحركة ذهبت بعيداً في الميوعة التي يسوِّقها بعض الإسلاميين، عندما يفشلون في إدارة ومعالجة المستجدات السياسية، وخصوصاً عندما يتعلق الأمر بالخارج، أي بالدول الكبرى التي لم ولن ترضى عن التيار الإسلامي، حتى وان تنازل عن مشروعه في إقامة الدولة الإسلامية، التي مسماها يُرعب دوائر القرار في الغرب الصليبي كله.
لم تبدِ الحركة الإسلامية التونسية، أي فعل مقاوم للحالة الانقلابية الشبيهة بأختها في مصر، بل سلّمت بكل ما أملاه تيار العلمنة الممول من السفارات الغربية في تونس، وإعلامه الأجير المستنسخ من أفجر إعلام عربي، وهو الإعلام المصري، الذي أدخل تقاليد إعلامية جديدة، تقوم على الكذب البواح والفجور السافر، ورأينا كيف خضعت حركة النهضة بخطابها السياسي الناعم، لكل المطالب التي جيَّش لها تيار العلمنة كل أدوات المكر والخبث والعمالة، لينجح في الأخير، بإبعاد الحركة الإسلامية من صنع القرار، والإبقاء عليها مشاركة في الحكم، كخطوة أولى ليتم تصفيتها مستقبلاً، كما يحدث في مصر، وان كان الأمر يختلف قليلاً في التفاصيل التي لم تكن مطابقة، لما جرى في تونس، لكن المشروع واحد، والجهة الراعية له واحدة، والتمويل كذلك واحد، كل هذا وحركة النهضة وشيخها الجليل يحدثوننا عن الانتصار الكبير، الذي تحقق في تونس.
لم يمهل النظام الجديد الحركة الإسلامية وقتاً طويلاً، وبدأنا نسمع عن تحييد الإدارة، وتحييد المساجد وهي قرارات نفهمها جيّداً في بلادنا العربية، ونفهم مغزاها، فقد عادت اللغة نفسها، وخطاب الإقصاء نفسه، بذور النظام القديم والدولة العميقة، وبين عشية وضحاها، قد نسمع بقرارات خطيرة، قد تفاجئ الجميع بما فيهم الشيخ الغنوشي، تقديم بلاغ في الشيخ وفتح ملفاته القديمة وقد يقدم إلى العدالة، وتصفىَّ حركة النهضة، كما لو أنها ما تزال محظورة، وكأن الثورة التونسية أضغاث أحلام، ومشاركة الحركة الإسلامية في المجال السياسي العربي ضرب من الخيال، وهذا ما تطمح إليه الثلة العلمانية المأجورة، وهذا وجه مشروعها الخبيث .
فاللهم احفظ تونس وحركتها الإسلامية، واخز عملاء الغرب ومشاريعهم في بلادنا العربية والإسلامية.