معركة تهويد القدس

القدس أولى القبلتين وثاني الحرمين، مقصد مهج العرب والمسلمين، وتهفو النفوس إليها. وعندما سقطت بيد الصهاينة، انتزع جزء من قلب كل عربي ومسلم، لهذا يسعى كل واحد منهم لاستعادتها مهما طال الزمن. إن قضية القدس هي قضية العرب والمسلمين جميعًا، وهي وقف إسلامي لكل المسلمين، وهي تشكل محور الصراع العربي الصهيوني.

ولقد صدر حديثًا كتاب تحت عنوان: “معركة تهويد القدس” للدكتور توفيق المديني. تناول الكتاب التاريخ الموجز لمدينة القدس، وفنَّد المزاعم الصهيونية حولها بأن اليهود أول من سكنها، وبين أن هذه المغالطات التاريخية والدينية يمارسها أتباع الأيديولوجية الصهيونية، ووضح كيف كانت فلسطين عامة أرضًا للعرب “اليبوسيين”، ثم تعاقب عليها “الكنعانيون”، و”الفينيقيون” و”الحيثيون” و”العموريون”، واستمر الحكم العربي لأكثر من ألفي عام. ثم ذكر المؤلف كيف وقعت القدس تحت الانتداب البريطاني، الذي ساعد احتلاله الاستيطان اليهودي منذ “وعد بلفور” 1917م، واستعرض القرارات الدولية المتعلقة بها.

وتحدث المؤلف عن غياب موضوع القدس عن “اتفاقيات كامب ديفيد”، وذكر الإشكالات التي نشأت عن “اتفاقات أوسلو” وملحقاتها، ثم عن وضع القدس في “وثيقة جنيف” التي تُعد وثيقة خطيرة لأنها غير رسمية، وفي “مفاوضات كامب ديفيد 2″ و”مقترحات كلينتون” عام 2000م.

ويبين المؤلف في القسم الثاني من الكتاب موقف الغرب من احتلال القدس منذ عام 1948م حتى هزيمة عام 1967م، وصولاً إلى حرب رمضان/أكتوبر 1973م، والذي اتخذ الغرب فيه موقفًا عدائيًّا من مصر والدول العربية المقاوِمة.

ثم استعرض المؤلف وضع القدس في ضوء قرارات الأمم المتحدة المتتالية منذ قرار التقسيم، والتناقضات التي نشأت عن الموقف الرسمي والعملي. كما وضح موقف أمريكا من موضوع القدس، وخاصة التيار الديني المسيحي الصهيوني المتشدد، الذي يشكل الداعم الرئيسي لـ”إسرائيل”.

على الرغم من تعدد الطوائف والفرق والاتجاهات المذهبية المسيحية، فإن التعبير الأوضح والأقوى عن الميول الأصولية في المجتمعات المسيحية يتركز في “الطائفة البروتستانتية” التي تفرع عنها أيضًا مذاهب متعددة، لعل أشدها تطرفًا هو مذهب “البيوريتانية” (التطهرية) الذي ساد في إنجلترا في القرن السابع عشر.

وكان “البيوريتانيون” شديدي المحافظة على التقاليد العبرانية، وكان مذهبهم بمثابة بعث للرُّوح اليهودية القديمة، وقد تميزوا باعتمادهم الشديد على “العهد القديم” من “الكتاب المقدس” المسيحي، فاعتبروه وحيًا سماويًّا، يغذي الفكر ويرشد نحو الصلاح. وأدى غلوهم في إجلال “العهد القديم” إلى التماثل في المشاعر والطموحات بينهم وبين اليهود “شعب الله المختار”.

وفي النصف الأول من القرن التاسع عشر أسفر الواقع السياسي في إنجلترا عن ظهور جيل جديد من “المسيحيين المتصهينين”، اقترنت في أيديولوجيتهم الحوافز الدينية بالحوافز “الإمبريالية”، أو يمكن أن يقال أنه بدأ العمل على توظيف الدافع الديني لتحقيق مكاسب سياسية ذات أبعاد إستراتيجية. فقد أثارت كتابات “المسيحيين المتهودين” الموالية للصهيونية موجة من التعاطف في أوساط الرأي العام. واتضحت تمامًا المزايا الإستراتيجية التي يمكن جنيها من خلال وجود منطقة نفوذ بريطانية في الشرق المتوسطي. وهكذا ظهرت فكرة ضم فلسطين لبريطانيا، عن طريق زرع كيان يهودي فيها بحماية بريطانية، ثم راقت الفكرة لكثيرين ممن كانوا لا يكترثون بها قبل ذلك، واحتلت مكانة بارزة في أذهانهم مسألة: الترابط بين العمل البشري من أجل تحقيق إرادة الله بعودة اليهود إلى أرض فلسطين، وبين المصالح الإستراتيجية البريطانية.

لا شك أن “المسيحيين المتصهينين” لم ينظروا إلى القضية الفلسطينية من زاوية الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني، بل من زاوية النفي القطعي لوجود وطن فلسطين القومي والسياسي والحضاري. وباختصار، فإن “المسيحية الصهيونية” -التي تعتبر عنصرًا أساسيًّا في التاريخ الديني والاجتماعي والسياسي الغربي- انتعشت في البيئات “البروتستانتية”؛ إذْ بلغت ذروتها في القرن التاسع عشر مع بداية التوسع الاستعماري و”الإمبريالي”. وقد كان مركزها في البداية بريطانيا، حين كانت هذه الأخيرة قائدة المعسكر “الإمبريالي” ومركز الرأسمالية العالمية، لكنها انتقلت إلى الولايات المتحدة الأمريكية لاحقًا، وأصبحت أمريكا هي نصير الحركة الصهيونية العالمية، متبنية أهدافها، وعاملة على تحقيقها، والتي تمثلت أخيرًا في قيام الدولة الصهيونية على أرض فلسطين.

وهكذا أضحت فلسطين في نظر “أيديولوجية المسيحية الصهيونية البروتستانتية” الوطن الذي أعطاه الله لبني “إسرائيل”.

وتؤمن المسيحية الصهيونية في أمريكا بعقيدة “هرمجدون”. القس بيلي جراهام -الذي ظل منذ عام 1970م يحذر من أن العالم يسير بسرعة كبيرة نحو “هرمجدون”- يقول: إن الجيل الحالي من الشباب قد يكون آخر جيل في التاريخ. وظل يردد في اجتماعاته الكنسية وبرامجه التلفزيونية مقولته الشهيرة: يتساءل الكثيرون: أين تقع “هرمجدون”؟ وما مدى قربنا منها؟ وفي محاولته الإجابة يقول: حسنًا، إنها تقع إلى الغرب من نهر الأردن، بين الجليل والسامرة، في سهل “يزرعيل”. وعندما وقف نابليون في هذا الموقع العظيم قال: إن هذا المكان سيكون مسرحًا لأعظم معركة في العالم. ويضيف جراهام: إن الكتاب المقدس يعلمنا بأن آخر حرب عظيمة في التاريخ، سوف تخاض في ذلك الجزء من العالم؛ الشرق الأوسط.

وقد أدركت النخب المسيحية الأمريكية أن الحياة الثقافية الأمريكية تخضع لسيطرة وسائل الإعلام وللكنائس. ولما كان هذان البُوقان (الإعلام، والكنيسة) من التأثير والقوة والفاعلية بمكان، فقد استطاعت المسيحية أن تستغلهما إلى أقصى الحدود لغرس أيديولوجيتها في أذهان المجتمع الأمريكي، ولكي تترسخ في الثقافة السياسية الأمريكية. ومما لا يدعو إلى الدهشة أن المسيحية الصهيونية الأمريكية تتبنى أفكار الأصولية اليهودية ومفاهيمها، ومن ثَم فإن الأصوليتين تنبعان من المصدر عينه، وتصبان في بركة واحدة، ألا وهي خدمة الأهداف “الإمبريالية” الأمريكية والأهداف الصهيونية. و”المسيحيون الأصوليون” في نصف الكرة الغربي، يؤيدون “اليهود الأصوليين” في طرحهم برنامجًا سياسيًّا يركز على بسط السيادة اليهودية على أرض “إسرائيل” الكاملة، وهم يعتبرون مثلهم أن هذه الخطوة الحاسمة تؤدي إلى التعجيل بإتمام عملية الخلاص الكونية التي قضت الإرادة الإلهية بها -في زعمهم- والتي قد بدأت فعلاً بحسب اعتقادهم.

وتؤيد المسيحية الصهيونية من قديم قيام دولة الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، وتعتقد أن قيام “إسرائيل” هو تحقيق للوعد الإلهي بالأرض حسب العهد القديم. إنها ليست لأولئك الذين يسمون أنفسهم “فلسطينيين” كما قال بات روبرستون في أبريل 2002م. ويوجد الآن في الولايات المتحدة تلاحم قوي بين السياسة الأمريكية الرسمية والشعبية، التي تعتنق خطابًا رائجًا حول الديمقراطية وحقوق الإنسان، وبين الأطروحات المسيحية الصهيونية الغيبية، التي تطمح إلى جمع شتات اليهود في أرض الميعاد، وإعادة بناء الهيكل المزعوم على أنقاض الحرم القدسي الشريف استباقًا لقدوم السيد المسيح، ويأتي من بعد ذلك حكم الله على الأرض.

لقد شكل تيار الصهيونية المسيحية في الولايات المتحدة على الدوام رافدًا استندت إليه الصهيونية في تحقيق مشروعها، وفي تشكيل مجموعات ضغط تعمل لمصلحة “إسرائيل”، بل في كسب قطاع واسع من الأوساط البروتستانتية الأصولية في أمريكا وعلى أعلى المستويات. وإذا كانت الصهيونية المسيحية تبرز الآن كقوة محركة ودافعة للسياسة الأمريكية ونزوعها إلى معاداة العرب والمسلمين وحقوقهم، والتحريض على خوض الحروب ضدهم تحت شعار “محاربة الإرهاب”، أو غيره من الشعارات، بعد وصول أركانها إلى السلطة؛ فالحقيقة أن تيار الصهيونية المسيحية موجود منذ سنوات طويلة وبدرجات مختلفة في مراكز صنع القرار الأمريكي في مختلف العهود، وبالذات ابتداء من وصول “اليمين المحافظ” أو “المحافظين الجدد” إلى الحكم في الولايات المتحدة في عهد حكم الرئيس رونالد ريجان عام 1980م، وقد أسس هذا اليمين برامجه السياسية والاجتماعية والثقافية على مبادئ دينية خطيرة، وشكل مع قوى الصهيونية المسيحية تحالفات وثيقة. وقد كان للقوى الصهيونية المسيحية دور رئيسي في صياغة الأبعاد الأيديولوجية والتصورات الفلسفية والأخلاقية لقوى “اليمين المحافظ”، كما أمدته بعناصر وكفاءات بشرية بارزة، وساندته بمؤسساتها ومنظماتها المختلفة، بحيث أضحى أبرزُ مفكري هذا “اليمين المحافظ” يعبرون عن جوهر المنطلقات الفكرية لتيار الصهيونية المسيحية، وأخذوا يوظفون هذه المنطلقات في صياغة الفكر الإستراتيجي الحاكم في الولايات المتحدة، كما تجلى ذلك في عهد الرئيس جورج بوش.

Exit mobile version