
بعد أحداث أكتوبر 1988 ثار الشعب على كل شيء، وانتقم من كل ما كان يرمز للمعاناة اليومية، فكانت أسواق الفلاح التي عيّشتهم في إرهاق ومعاناة يومية رمز انتقام الشعب من الاشتراكية الكاذبة، إشتراكية الندرة، إشتراكية المحاباة في كل شيء، إشتراكية اختلاس حق المواطن، إشتراكية إلهاء الناس عن الأمور الهامة في البلد بالخبز والسميد والبطاطا والقوة والسكر والبيض والزيت وكل المنتوجات المدعمة ذات الاستهلاك الواسع، حقيقة كنا مخدوعين باشتراكية كاذبة مارسها وسهر على تنفيذها كذابون لم يكونوا يؤمنون بها بدليل أنهم كانوا أول كافر ومرتد عنها بعد ثورة الشعب عليها وعليهم.
وأصبحت الأغنية الجديدة التي ألّفها من عاد من أحضان صندوق النقد الدولي ومختلف الهيئات الدولية: “اقتصاد السوق”، والرأسمالية، وانسحاب الدولة من النشاط الاقتصادي، والملكية الخاصة والخوصصة، وفعلوا ما بوسعهم لبيع الاقتصاد الوطني للأجنبي ولأنفسهم بالدينار الرمزي، فكانوا هم أول من اشترى المؤسسات التي سُرّح عمالها بالآلاف، وهم من استولى على مفاتيح الاقتصاد، وظهرت الطبقة البرجوازية الرأسمالية الجشعة التي لا ترحم، ولا تحلّل ولا تحرّم، كل شيء مباح في نظرها، واستغنت وكبرت وكبر جبروتها وطغيانها، فكانت تحرك كل شيء في البلد، وتتحكم في كل صغيرة وكبيرة، المهم الجزائر كانت ملكها تفعل ما تشاء دون حسيب أو رقيب، وغطّى على نشاطها انشغال الناس بالحفاظ على حياتهم، فكان الصراع بالنسبة للمواطن صراع بقاء فقط، لكن الرأسماليين الجشعين كانوا يعيشون بعيدا عن الأزمة وكأنهم ليسوا معنيين بها.
واستمر الأمر إلى أن بدأت بوادر الاستقرار الأمني واسترجع المتخاذلون الهاربون من الوطن مكانتهم الاقتصادية بسرعة فائقة واستخرجوا ما جمعوه حين كان الناس خائفون، وبرز للوجود رأسماليون جدد يجمعون بين اللعب السياسي القذر والمال القذر والمشاريع القذرة، فشرّعت لهم القوانين التي تعزّز مكانتهم وتزيدهم قوة وسلطة ونفوذا، فكان ميلاد المافيا الرأسمالية التي سيطرت على المشاريع الكبرى والاستيراد والتصدير، فتفنّنوا في تضخيم الفواتير الخاصة بالمشاريع الكبرى، وتسابقوا إلى الاقتراض من بنوكهم التي لديهم نفوذ وسيطرة عليها، فأخذوا آلاف المليارات من الدينارات وملايين الدولارات قروضا لتمويل مشاريع مضخمة أصلا لا تساوي القيمة التي اقترضت عليها تلك الأموال، بل أن من المصانع التي أقاموها والمضخم فواتيرها مصانع قديمة تم استيرادها على أنها جديدة وهُرّبت أموال طائلة إلى الخارج بذلك، وتم استيراد السلع الرخيصة من دول آسياوية بفواتير مضاعفة فدمرت صحة الناس وهرّبوا هم أموال الأمة للخارج، وتتابعت الأحداث الاقتصادية التي كان عنوانها: الجشع والفساد في بلد البترول والرأسمالية القذرة.
العجيب أننا إلى الآن لم نفهم ما طبيعة اقتصادنا، وكيف يمكن أن نصنّف رجال الأعمال في بلادنا، فإلى اليوم ما يزال الدعم للسلع ذات الاستهلاك الواسع، وما يزال التعليم مجاني، والصحة مجانية مع رداءة خدمات كل منها، وبروز قطاع تعليمي خاص تجاري بالدرجة الأولى بعيد عن الرسالية في نشاطه، بل وجدت عيادات خاصة تبيع وتشتري في الناس من داخل المستشفيات العمومية التي ساءت حالها إلى أبعد الحدود، فأصبحت مصيدة لأطباء نسوا القسم الطبي وغدوا أطباء رأسماليين جشعين إن لم نقل مافيا طبية أساءت لهذا القطاع الحساس في المجتمع.
لقد أصبح اقتصادنا أي شيء إلا أن يكون اشتراكيا أو رأسماليا، لقد أصبح اقتصادنا اقتصادا مافيويا تتحكم فيه العصابات الإجرامية التي يمكن أن تفعل كل شيء من أجل أن تبقى مسيطرة على السكر والقهوة والزيت والموز والتفاح والحديد والاسمنت وأشياء كثيرة لا تريد أن تتخلى عنها، بما فيها السيطرة على مشاريع الطرقات والعمارات والسيارات والقائمة لا تنتهي أبدا، لذا أرى أننا ضربنا في الصميم من طرف أبناء جلدتنا الذين باعوا اقتصادنا وخربوه.
فلماذا لا تنظّف الجهات الأمنية في بلادنا هذه القذارة مرة واحدة، وتشن حملة قوية لفضح وكشف خيوط هذه الشرذمة المافيوية التي تعتقد يقينا أنه لا يمكن أن يزعزعها أحد مهما بلغ من السلطة، وعليه فهي تفعل ما بدا لها في شتى المجالات، لذا فإنني أعتقد يقينا أنه لا حل لها إلا أن تستهدف من طرف جهات أمنية قوية مكافحة لكل ما يتعلق بمصير الأمة ويهدد استقرار الدولة، وأرى أن هذه الجماعات الإرهابية الاقتصادية أشد خطرا على استقرار الدولة وأمنها، ولابد أن تضرب بيد من حديد، وإلا فإنه سيأتي اليوم الذي تضع فيه هذه الشرذمة البلاد للبيع في الأسواق العالمية فنصبح ملكا لأصحاب ربطة العنق، أو لغيرهم ممن يترصدون الفرصة، فهل من منقذ لاقتصاد الجزائر؟