هزلت فسامها كل مفلس !/ أ.عبد الباقي صلاي

الانتخابات الرئاسية التي بدأ السعي إليها بخطى حثيثة من قبل البعض ، وبإلحاح من أطياف مختلفة،وطبقات مجتمعية متباينة في التفكير والرؤية،وحتى في المستوى المعرفي والعلمي ،أظهرت فعليا المستوى العام الذي تعرفه الجزائر منذ سنوات عديدة،كما بينت أن الجزائر بحجمها التاريخي،وقيمتها الكبيرة نضاليا على مر العصور،هي مجرد متاع رخيص لدى هؤلاء الطامعين في تبوء منصب الرجل الأول في البلاد،مع كسر كل الأعراف والتقاليد الأخلاقية في مثل هذه المناسبات العظيمة.
والمصيبة الكبرى في فهم هؤلاء الطامعين والطماعين- وأغلبهم لا يحمل أدنى معرفة بخبايا المنصب،إلا من وجهة منفعية قميئة تعبر عن انحطاط بكل المقاييس- في الترشح للانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها في 17 أفريل القادم،أن أغلبهم لا يدري حجم المسؤولية الملقاة على عاتقهم،وأغلبهم يظنون أن الأمر مجرد ترشح والظهور أمام الصحافة دون أدنى مسؤولية تجاه أنفسهم أولا،وتجاه محيطهم ثانيا.غير عابئين بأي انعكاسات سوف تكون على مستقبلهم أمام الناس وأمام التاريخ.
كما أن أغلبهم لا يدركون حقيقة ما هم مقدمون عليه من مسؤولية كبيرة،ومن أمانة عظيمة.بل هناك من يظن أن منصب رئيس الجمهورية هو منصب فقط للبهرج،وقضاء المآرب الشخصية للمقربين وللحاشية من زمرتهم، وليس منصبا للعمل الجاد، والسهر على مستقبل شعب ودولة،وأن منصب الرئيس هو من المناصب الحساسة التي يتوجب على المتقدم إليه أن يكون صاحب خصوصية،ومختلف عن باقي الناس،فضلا عن أن المرشح لمنصب رئيس الجمهورية يجب أن يكون شخصية مشهود لها بالإخلاص والحس الوطني،ولها وزنها أمام المجتمع باتفاق الجميع،وبإجماع الصديق قبل العدو.
إلى غاية كتابة هذه السطور هناك أكثر من ثمانين شخصا سحبوا استمارة الترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة،وإذا قلنا أن رؤساء الأحزاب الذين سحبوا استمارات الترشح لا يتجاوز عددهم 18 شخصا حسب وزارة الداخلية والجماعات المحلية،نجد أن أغلب الطامحين والطامعين في التقدم نحو الترشح لمنصب القاضي الأول في البلاد هم من عامة الناس- حتى وإن كان منهم المثقف ورجل الأعمال ومن يدعي الخبرة الاقتصادية- الذين لا يمتهنون السياسة ضمن نسق معين،وضمن إطار حزبي معروف.وهذا صراحة كاف لنقول بأن هؤلاء الناس إما متمرسون في السياسة ومهتمون بها إلى حد الهوس المرضي ،على الرغم من أنهم غير مؤطرين سياسيا وحزبيا،وإما أنهم فوق الأحزاب نفسها،ولهم دراية بدواليب السياسة أكثر من الأحزاب ومن السياسيين أنفسهم،ولهذا لجأ كل واحد منهم حسب فهمه إلى اختيار أنجع السبل،وأسهل الطرق وهو الدخول فرادى على أمل الحصول على النصاب الأوفر والمتمثل في 75000 إمضاء.وإما أن أغلبهم لا يميل إلا للحالة الجنونية التي أصبح عليها أغلب المهتمين بالحقل السياسي،وبالأعراس الانتخابية،كون الانتخابات في الجزائر أصبحت كرنفالا وهرجا ومرجا،وهي المدخل الفعلي والباب الكبير الذي منه يكون مجد الكثيرين،ومنه يكون الاتجاه نحو الجاه والسلطان والأموال الطائلة.
مع أسف شديد السياسة في الجزائر لم تعد حكرا على السياسيين أنفسهم،ضمن رواق سياسي معين تمارس وفق تقاليد وأخلاق خاصة بالتوجهات الحزبية،ولها أهداف تخص الوطن قبل كل شيء،بل أصبحت السياسة لا سيما في السنوات الأخيرة مطلبا عريضا لكل من هب ودب.فالكل أصبح يلهث وراء الترشيح ووراء الدخول في الانتخابات،دون أي رادع أخلاقي،أو رادع علمي يجعل المتقدم لأي انتخابات حتى لو كانت انتخابات بلدية،يستحي من نفسه ومن موقفه هذا خصوصا إذا كان أميا.
ربما الجزائر البلد الوحيد الذي أصبحت فيه الانتخابات شيئا عاديا يدخلها أي شخص مهما كانت وظيفته ومهما كان مستواه العلمي،وربما البلد الوحيد الذي يتجرأ الأمي والذي لم يعرف طريقا نحو المدرسة ،على الترشح لمنصب رئيس الجمهورية دون المرور حتى بالسلم المعروف،انتخابات بلدية وولائية ثم انتخابات المجالس الشعبية إلخ.
وقد يكون هذا الأمر مرده إلى الثقافة التي أصبحت سائدة بشكل رهيب في الوسط الاجتماعي على وجه أدق،والتي زرعت بذورها دون سابق إنذار في الحياة العامة،ودعمتها السلطة بسياستها غير المدروسة.حتى بات كل شخص يرى في السياسة الملاذ الوحيد للخروج من الأزمة،والدخول في زمرة الكبار والوجهاء.وقد عايش الجميع أكثر الحالات الانتخابية وكيف كانت تدار عبر مسالك غير شريفة،وعبر طرق لا تمت بالأساس للانتخابات الحقيقية أين يكون البرنامج هو الذي يدخل في المعترك السياسي قبل أي اعتبارات أخرى.
مجمل القول أن الانتخابات الرئاسية في الجزائر لم تعد انتخابات رئاسية حقيقية بالمفهوم المتعارف عليه في الدول التي تحترم نفسها،وتعطي لمفهوم الدولة احتراما خاصا يليق بحقيقة الدولة،بل مع تهافت الأكثرية للترشح نحو قصر المرادية وهم يعلمون أن أفضلهم لن يستطيع أن يحصل على ألف إمضاء،أصبحت الانتخابات بأشكالها مسخرة لا نظير لها صراحة.وهذا لن يؤثر على المستوى العام المعرفي للمجتمع فقط،ولكن يؤثر على قدرة الدولة ذاتها مستقبلا،ويجعل كل أركان الدولة هشة،ويرهن مستقبلها لعقود طويلة.لأن المجتمع الذي يرضى بأن يخلط في كل شيئ ليس مجتمعا يستحق الحياة مع حضارة ،والسياسة لا تمارس بغريزة الحصول على مكاسب دون التفكير في كيف يكون العطاء.لكن للأسف لقد هزلت كما يقول الشاعر حتى بانت كلاها فسامها كل مفلس،مع أسف الانتخابات الرئاسية فقط أما الجزائر فهي أكبر من الجميع.