مصرف السلام الجزائر .. خدمات بنكية أصيلة
أعلام الجمعية

صُنّاع الحياة لا يـموتون الدكتور أبو القاسم سعد الله في شريط الذكريات :/أ.محمد الصالح الصديق

salah sedik1الحلقة الأولى:

يفد الإنسان إلى هذه الأرض غير مختار، ويقضي فيها أجلا محدودا لا يعرف نهايته، ثم يموت غير مختار.

وبين ولادته وموته يعيش في صراع دائم مع الحياة ينتصر وينهزم، يقوم ويسقط، يسعد ويشقى، يفرح ويحزن، يربح ويخسر، يصح ويمرَض، فإذا انتهت ضيافته في هذه الأرض احتظنه التراب والتحق بآبائه وأجداده، ونسيه الأقارب والأباعد، ولا يعودون يذكرونه إلا في المناسبات أو عندما يدعو إلى ذكره سياق الحديث!

ولكن هناك صنفا من الناس يفرضون دوام وجودهم فوق هذه الأرض وإن غيّب الموت أجسامهم عن الأعين وتواروا في قبورهم إلى الأبد، بل قد تكون حياتهم بعد موتهم أرفع ذكرا، وأكثر إشراقة، وأقوى أثرًا.

وكلُّ الناس يوَدُّون لو يكونون هذا الصنف، يظلَّون بعد موتهم أحياء يفرضون وجودَهم على الأحياء وهم في قبورهم، ولكن هيهات هيهات، فالغاية صعبة المنال، دونها جهاد متنوع مستميت، وتنكُّر للنفس، وإعراض عن ملذات ومشتهيات، وتغرُّب عن الوطن، وابتعاد عن الأهل والأقارب.

ثم إلى كل ذلك لابد من عزيمة قوية وإرادة ماضية، وهمّة عالية، تفرض على العقل المجاهدة، وعلى الجسم المصابرة والمثابرة، وعلى العاطفة الرياضة على التعفف والمصابرة والسيطرة على النفس الأمّارة.

فما لم يكن لهوى الإنسان عقل، ولشهوته كابح، ولتحركه وتصرفه ضمير، ولأمله سائق ودافع، فلا سبيل له إلى الحلم بهذه الحياة بعد موته.

سعد الله واحد منهم

والدكتور أبو القاسم سعد الله قد تم أجله المحدود، وانتهت ضيافته المقررة في هذه الحياة، كما هو الشأن بالنسبة إلى كل إنسان، ولكن ما يهنَّأ عليه، ويَقَرّ به عينا في قبره، أنه كان من هذا الصنف الذي يموت ليحيا، ويختفي ليظهر، وينتهي ليبتدئ، ويتوقف لينطلق!

أما كيف أمكن له أن ينتظم في سِمْط الخالدين، الذين كان موتهم بدايةَ حياة خالدة مشرقة، فأقلُّ ما يقال عن ذلك أنه قرّر -رغم الفقر والحرمان، ورغم العوائق والعقبات- أن يبني لنفسه حياة خاصة متميزة قوامها العلم والمعرفة، وثمارها صناعة الرجال، وإثراء المكتبات، وتنوير المؤتمرات.

قرر ذلك في غرة شبابه، فكان ما قرَّره بصدق عزيمته، وصحة توكله، وتوافر جهاده، وقوة سيطرته على النفس والهوى.

فظل أبو القاسم سعد الله يتحدى ويجاهد، ويصابر  ويواصل، دون أن تثنيه الحواجز والعقبات.

وطبيعي أن يحزن لموت سعد الله كل العارفين لفضله، المدركين لمكانته، ففقدُ عظيم في العلم والأدب، أو الجهاد والتضحية، أو في السياسة والإصلاح، يحدث في الأمة من الخسران ما عبّر عنه عبدة بن الطيب بقوله في قيس بن عاصم:

فما كان قيس هلكه هلك واحد

ولكنه بنيـــــــــان قوم تهدمــــــــا

ويبقى العزاء من فقده متمثلا في هذين الأمرين:

أولهما: أن ما قدّمه من عمل في مجال العلم والمعرفة يبوئه مكانة مرموقة عند الله، فالله لا يضيع أجر من أحسن عملا.

وثانيهما: أنه باق في كل عمل صاغه فكره، ودبّجه قلمه، ونشرته صحيفة، أو ضمَّه كتاب!

وكل هذا وذاك مما اكتنفه من ظروف، وما أبدعه من أعمال، وما صاحبَه من أقوال، هو ما يدفعنا اليوم إلى تحرير هذه الكلمة، تحيةَ وفاء له في قبره، ودمعة حزن على فراقه.

وهذا في الواقع دليل آخر على أهمية الرجل ومكانته، وأهليته للتنويه والإشادة.

فالاهتمام بحيّ من الأحياء، والاستجابة لأمره وطلبه، لدواع واعتبارات، كمكانته، أو قرابته، أو كبره، أو غير ذلك من الدواعي والاعتبارات أمر طبيعي، قد لا يثير اهتماما ولا يطرح سؤالا.

أما أن يجبرك الميت الذي غيّبه القبر على أن تترك اهتماماتك جانبا، وتهتم به هو، وتشغل فكرك وقلمك بتعداد مآثره ومناقبه، فذلك هو الدليل الصادق العميق على نوعية هذا الإنسان ومعدنه الذهبي، وأنه لم يعش لنفسه وأهله، وإنما عاش للناس جميعا!!

وخالد الذكر أبو القاسم سعد الله نائم في قبره، وأنا مشغول به الآن، تاركًا كلَّ أعمالي جانبا، منكبا على الورق، أصوغ وأدبّج، دون أن يكون لي في هذا آمرٌ أو دافع، سوى ما ترك وراءَه من أعمال فكرية، وما حباه الله به من حياة لم يكدر صفوَها حقد على أحد، ولا طمع في شيء، فكانت حياته الوادعة الناصعة، كما قال الزيات في أحد أُلَّافـه «أشبه بحياة الجدول السَّلسل الرقراق، تفيض على جوانبه الري والخصب من غير هدير ولا ضغيان ولا كدر» .

كيف عرفته؟

كان لقاؤنا الأول بجامع الزيتونة بتونس سنة 1948، ولا أذكر شيئا عنه في هذه الفترة إلا ما كنت أتوسمه فيه من ذكاء وفطنة ونجابة، وجدّية في الدراسة، ولما تخرجت  سنة 1951 وعدت إلى الوطن خرج من الذاكرة ولم أعد أتذكره إلا في بعض الفترات حينما أعود إلى أيام الزيتونة فيمر شريط الذكريات بالذاكرة، فأقف عند الذين كنت أجتمع بهم باستمرار كالإخوة مولود قاسم وعبد الحميد مهري وبشير القاضي، أو من حين لآخر كسعد الله رحمهم الله جميعا، ومحمد الطاهر الأطرش، وسليمان بشنون أطال الله في عمرهما.

ثم عاد إلى الذاكرة بكثير من الاهتمام به، حينما قرأت له في صحيفة (البصائر) ع561 بتاريخ 62 شوال عام 1370 هـ، 03 جويلية سنة 1954م مقالا بعنوان (أمة المجد في الميزان).

قرأت الموضوع في شيء من التلهف، وصورة الكاتب عالقة بالذاكرة، فكأنه الذي يقرأه وأنا أستمع إليه، وكأن كل كلمة يقرأها تذكرني بما كنت أتوسمه فيه من ذكاء وفطنة وغد وضيء مشرق.

ثم تتابعت مقالاته وقصائده الشعرية على صفحات البصائر، فقرأت له في النثر (فلسفة الغرور)، (على هامش البعثة)، (من فتوة ابن الرومي)، (مع حمار الحكيم)، (أرض الملاحم)، وغير ذلك كثير.

كما قرأت له ما جادت به شاعريته، ودلَّني دلالة عميقة على أنه لم يكن كاتبا فقط كما كنت أظن بل هو شاعر أيضا:

أسلوب جذاب، ووجدان فياض، وخيال واسع، وصورة معبرة، وجمال يسرق ويأسر إلى موسيقى تنسكب في الأذن نقية صافية كرنين الفضة، وندية كترصيع البلبل، كهذه القصائد:

(هزاز الشعر)، (قيتار الأنغام)، (نجوى العبقرية)، (غيوم)، (أطياف).

ومن خلال هذه المقروءات النثرية والشعرية عبر أعداد من البصائر، وعبر شهور أو سنوات من الزمان، تكونت في ذاكرتي شخصية سعد الله الأدبية، فكنت أضعه في مكانة مرموقة تقوم على الوطنية الصادقة، والفطرة السليمة، والهمة العالية، والمدارك الفكرية الواسعة، والطموح الذي يصحبه العمل الدائب، والمحصول العلمي الذي تجمَّع له في الزيتونة بالحفظ والدرس، والتحصيل والمصابرة.

لقاؤنا في طرابلس

وحينما كنت بطرابلس الغرب مسؤولاً عن الإعلام للثورة التحريرية جاء من تونس إلى القاهرة في شهر أوت سنة 1960 وقضى قرابة أسبوع بطرابلس، وكان كل يوم يزور إدارة البعثة الجزائرية ويقضي فيها معظم وقته.

وكان رحمه الله لا يحلو له جلوس إلا في مكتبي، وكان خلال كل يوم من هذه الأيام، يأتي في حدود الثامنة والنصف أو التاسعة، فيجدني منكبا على عملي، فينقطع هو إلى الصحف، وعندما ينتهي منها يأخذ كتابا من الكتب التي أحرص على اقتنائها لأهميتها العلمية والأدبية، أو لعلاقتها بثورتنا التحريرية، فيتفرغ لها كلية، حتى أنني أحيانا أنسى وجودَه معي لحرصه على الهدوء من جهة، ولانقطاعه إلى الكتاب من جهة ثانية بقراءة عميقة.

كتابي (صور من البطولة في الجزائر) وما أثارہ من غبار

وأذكر أنه قرأ كتابي (صور من البطولة في الجزائر) في صبيحة واحدة فتأثر عميق التأثر ورأيت -وهو يحدثني عن بعض صوره- قطرات دموع تسيل من عينيه فأكاد أبكي لبكائه.

وساقني الحديث عن هذا الكتاب إلى ذكر سحابة دكناء أثارها هذا الكتاب عند صدوره وذكرتها له، وخلاصتها:

أن الكتاب صدر بطرابلس سنة 1958، وعندما انعقد مؤتمر المجلس الوطني للثورة في هذا البلد اشتراه كثير من رجال الثورة، فمنهم من قرأه، ومنهم من تصفحه، ومنهم من اقتناه فقط، لأنه لا يقرأ العربية، وكان هذا الإقبال عليه لأنه كُتِب عن الثورة، ولأن الكتب عن الثورة في ذلك العهد قليلة، ولأن هؤلاء الثوار يحرصون جدَّ الحرص على أن يعرفوا عن هذه الثورة كل ما يقال عنها أو يكتب أو يذاع.

وقبل بداية المؤتمر بيوم زارني في مكتبي بعض هؤلاء، فبعضهم يهنئني ويشكرني، وبعضهم يسأل عن الظروف التي تم فيها إعداده وطبعه، وبعضهم يسأل عن البطولات التي احتواها الكتاب كيف حصلتُ عليها في ظروف الثورة الشائكة، وكان الجميع يبدون إعجابهم وتقديرهم، ويشكرون ويريدون المزيد.

وفي مساء اليوم الثاني للمؤتمر جاءني اثنان من رجال الثورة، وهما العقيد محمدي السعيد، والعقيد محمد إعزورن، وبعد التحية، قال العقيد محمدي:

جئناك في موضوع سرّي لا ينبغي أن يطَّلع عليه أحد.

وقبل أن ينطلق في الحديث عن الموضوع، قام إلى الباب وأغلقه، وأنا في حيرة من هذا الأمر الذي جاءني من أجله العقيدان، وبلغ بهما الحرص على كتمانه إلى إغلاق الباب!

انطلق العقيد في الحديث وقال ما مؤداه:

تصفح اثنان من القادة كتابك فوجداه مقصورًا على منطقة القبائل، فكل ما عرضتَه من بطولات أو مواقف أو تضحيات هي من هذه المنطقة، فكأن الثورة إنما هي قبائلية، وهذا يناقض الواقع من جهة، ولا يخدم الثورة من جهة أخرى بل يضرها، إذ يخدم فرنسا.

فصعقت مما سمعت، وهالني أن ما استهدفته بتأليف الكتاب من خدمة الثورة قد انقلب ضررًا وخطرا.

فقال العقيد محمدي:

ما رأيك في هذا الموضوع، وكيف ترد على هذين الرجلين؟

فقلت له: رأيي وردي لا أقوى منهما لأنهما الحقيقة التي لا يكتنفها شك أو ريب.

إنني عشت في هذه المنطقة مجاهدا من يوم اندلاع الثورة إلى يوم خروجي من هذه المنطقة، وكنت أعيش هذه الصور بنفسي أو أعيش مع صنّاعها، وتأثرت بها وأودعتها هذا الكتاب، وأنا وطنيّ صادق أشد ما أمقت العنصرية والعنصريين، فلعنة الله عليها وعليهم.

فقال العقيد محمد إعزورن: هذا ما أعتقده وهذا ما ذكرته للأخ محمدي السعيد!!

خرج الرجلان، وبقيت أفكّر في هذا المصير الذي صرت فيه بقصد شريف، ونية حسنة، وكنت من توزّع الفكر، واضطراب النفس، لا أقدر على الكتابة، فأناملي لم تستطع أن تحمل القلم، وفكري قد جف، فلم يعد ينضح أو يرشح.

ولكني بعد قليل عدت إلى نفسي وحاسبتها، فخرجت من المحاسبة قويا واضح الرؤية، مطمئن البال:

ألست قد كتبت الكتاب بدافع الرغبة في خدمة الثورة؟

أليس ما في الكتاب مجردًا من كل عنصرية أو جهوية أو تحزّب؟

إذن فَلِمَ القلق والحيرة؟ ولِمَ التفكير والتهويل؟

رميت القضية جانبا، وانطلقت في عملي أعِد مادة «صوت الجزائر» الذي حان موعده.

وفي صبيحة الغد قبل انطلاق جلسات المؤتمر جاءني إلى المكتب العقيد الحاج الأخضر رحمه الله، ومناضلان آخران، فقال لي رحمه الله (ما مؤداه):

الحقيقة أن كل الإخوة الذين اقتنوا كتابك قد فرحوا به، وأثنوا عليك الثناء الجمّ، ولكنهم بعد قراءته أو تصفحه، تأثروا وخاب أملهم لما يوحي به من عنصرية وجهوية، وأنت تعلم أن الجهوية قبيحة مرفوضة لا سيما في وضعها الثوري (وأنت سيد العارفين).

ولكن الأخ العقيد محمدي السعيد قد ناب عنك في توضيح الموقف، ورفع الستار عن حقيقته، فلم يبق لهم في ذلك شك، فلتطمئن.

ثم ظلّ كثير من المناضلين الثوريين يترددون إلى مكتبي طوال أيام المؤتمر يحدثونني عن هذه السحابة التي أثارها الكتاب.

ولما انتهيت من رواية هذه القصة للدكتور أبي القاسم، علّق عليها بما معناه:

إن من لا يعرف وطنيتك، ويقرأ الكتاب يتصور هذا التصور، لأن كل ما فيه يصوّر بطولة القبائل ويسكت عن بطولات الأبطال في غير هذه المنطقة.

والذي لا مجال للشك فيه -يقول سعد الله- هو أن التحيز أو التعصب لمنطقة دون أخرى إنما يخدم فرنسا، ويضر الجزائر، ونحن في وقت أشد ما نكون حاجة إليه فيه هو الوحدة والتلاحم، وأنا أفهم وطنيتك كما يفهم الكثير من إخواننا، ولكن قد يكون هناك من يجهلها أو يصطاد في الماء العكر.

والذي استرعى انتباهي من سعد الله خلال الأيام التي كان يتردد فيها إلى الإدارة هو احترامه للوقت، وحرصه الشديد على استغلاله، خلافا لكثير من الطلبة وأهل العلم الذين ينزلون بهذه المدينة، ويزوروننا في الإدارة، فهمّهم في جل أوقاتهم التفسح، والتجوال، والتعرف على المدينة ليس إلا.

ومما علق بذاكرتي أنه كان يقرأ في صحيفة يومية في مكتبي ثم طبقها ودخلنا في حوار لا أذكر -لطول العهد- بدايته ولا سبب انطلاقه، وإنما أذكر فقط أن الحوار كان في الأمم التي تصلح للبقاء والتي لا تقوى على البقاء.

وبعد انتهاء الثورة كنت ألتقيه من حين لآخر في المناسبات، وإذا أتيحت لنا الفرصة تحدثنا عن الماضي في بعض ما يطرح من الذكريات أو عن الحال بما يثير من الاهتمامات.

***يتابع

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى