الشيخ مبارك الميلي بين التبصير والتنظير/ أ.د مولود عويمر
لم تجف دموع الأسرة الإصلاحية الجزائرية التي فقدت أبرز رجالها الشيخ عبد الحميد بن باديس في 16 أبريل 1940، حتى فجعت في يوم 9 فبراير 1945 بوفاة عالم مصلح آخر، وهو الشيخ مبارك الميلي.
لا نتناول في هذا المقال ترجمة مفصلة للشيخ الميلي، بل نتطرق هنا إلى أهم إسهاماته في الحركة الإصلاحية الجزائرية التي جعلت منه الرجل الثالث في جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وأحد أبرز مفكريها وحكمائها.
في رحاب جمعية العلماء الجزائريين
ساهم الشيخ مبارك الميلي في عام 1931 في تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي تمثل في نظره “مؤسسة شعبية تعمل لتهذيب المجتمع في دائرة الدين والعلم بالوسائل المشروعة.” (السنة ع 2 ).
واختير من أول يوم عضوا في المكتب الإداري وأمينا للمالية. واختير أيضاً في أكتوبر 1937 مديرا لجريدة البصائر غداة استقالة الشيخ الطيب العقبي.
وعمل الشيخ مبارك الميلي في ميدان التربية والتعليم. انتدبته جمعية العلماء إلى الأغواط فبقي فيها سبع سنوات مدرسا في المسجد العتيق، ومشرفا على مدرسة الشبيبة التي أسسها في عام 1933، وتخرج عليه طلبة سيلعبون فيما بعد دورا بارزا في الحركة الإصلاحية ومن أشهرهم: أبو بكر الأغواطي، أحمد بوزيد قصيبة وأحمد شطة.
وفي عام 1933، عاد الشيخ الميلي إلى مسقط رأسه بميلة ليواصل جهوده الإصلاحية في مجال التعليم والإرشاد. وعندما توفي الشيخ عبد الحميد بن باديس في أبريل 1940، خلفه الشيخ مبارك الميلي في دروسه بالجامع الأخضر بقسنطينة.
قام الشيخ مبارك الميلي بعدة رحلات عبر التراب الجزائري لتفقد شعب جمعية العلماء الجزائريين. وقد كتب عن بعض رحلاته في الشرق الجزائري في عام 1936. وسافر إلى فرنسا في سنة 1938 في مهمة علمية واستشفائية التقى خلالها برجال الإصلاح ومندوبي جمعية العلماء في فرنسا وعلى رأسهم سعيد صالحي وسعيد البيباني ومحمد الزاهي وكتب الشيخ الميلي مقالاً بديعاً عن زيارته لمدينة فيشي. وكم تمنيت لو كتب عن كل هذه الرحلة.
إنشاء الجمعيات والنوادي الإصلاحية
كان الشيخ مبارك الميلي من المتحمسين لتأسيس الجمعيات الثقافية والمهنية والنوادي لخدمة المشروع الإصلاحي. فالمساجد لا تكفي وحدها لتطهير القلوب وتنوير العقول وشحذ الهمم. فهو يدعو إلى إنشاء المؤسسات الحرة وتضافر الجهود لتفعيلها. فقال في هذا الشأن: “إن تأسيس الجمعيات الدينية الحرة من الخير الذي نريده لأمتنا، ومن البر الذي أمرنا بالتعاون عليه.” وألقى في النادي الإصلاحي بالعلمة محاضرة عن “تاريخ النوادي وتطورها وفوائدها”.
وهكذا أنشأ الشيخ الميلي جمعية خيرية في الأغواط لمساعدة الفقراء والمساكين. وأسس النادي الإسلامي في ميلة من أجل “جمع الكلمة وتطهير القلوب وتوجيه الأنظار نحو الصالح العام”. وأنشأ كذلك جمعية “حياة الشباب” التي تتمثل غايتها في ” ترقية عقول المسلمين كبارا وصغارا بالعلوم العربية والفرنسية وتهذيب أخلاقهم بالآداب الإسلامية ونتائج العقول البشرية”. وفتحها للبنين والبنات، ذلك لأن ” الإنسانية لا تكمل إلا بالعناية بجزأيه الذكر والأنثى… وإذا كان الإسلام قد جعل الرجال قوامين على النساء، فإن الإعراض عن تيسير طرق العلم عليهن والقيام بفروض دينهن جناية لا تعادلها جناية.” وفي السياق نفسه، كتب الشيخ الميلي بحثا طويلا حول “تعليم المرأة الكتابة”، بيّن فيه واجب المسلمين بالاهتمام بتعليم المرأة، وفند كل الحجج التي تعارض ذلك.
وتشجيعا للجزائريين على تأسيس الجمعيات والنوادي، نشر القانون الأساسي لجمعية حياة الشباب حتى يستفيد منه كل من له عزيمة لفتح نادي، ويسترشد به كل من له رغبة في تأسيس جمعية.
في عالم الكتب والصحافة
كان الشيخ الميلي رائداً في مجال الكتابة التاريخية. فأصدر في عام 1928 الجزء الأول من كتابه: “تاريخ الجزائر في القديم والحديث”. ثم أتبعه بالجزء الثاني في عام 1932. وتناول فيه تاريخ الجزائر عبر العصور وتوقف عند الدولة الزيانية، مبرزا الجوانب العلمية والأدبية لكل الدول التي ظهرت في الجزائر ومبينا إسهام العقل الجزائري في الحضارة الإنسانية. وساعده في ذلك الشيخ أحمد توفيق المدني، والشيخ عبد الرحمان الجيلالي.
كما نشر الشيخ مبارك الميلي كتاباً في العقيدة الإسلامية عنوانه: “رسالة الشرك ومظاهره”. وكان هدفه من وراء ذلك هو تطهير القلوب وتنوير العقول من الخرافات والشعوذة والأفكار الهدامة. وقد سبق له أن نشر مضمون الكتاب في 17 حلقة في الصفحة الأولى والثانية من جريدة البصائر. وقد راسل الميلي إدارة الجريدة لتنحية مقاله من الصفحة الأولى لأن من “حق القارئ أن يرى مواضيع الصدر متنوعة”. وتلقى رسائل عديدة تطالبه بجمع المقالات، ونشرها في كتاب مستقل، فوافق على ذلك وصدر بعد التصحيح والتبويب والإضافات.
واشتغل الشيخ مبارك الميلي مبكراً بالصحافة، فكتب في الجرائد الإصلاحية منها: المنتقد، الشهاب والسنة، البصائر. كما ساهم في جريدة وادي ميزاب لصاحبها الشيخ أبي يقضان باسم مستعار وهو الهلالي، والمجلة الزيتونية وصحيفة النهضة بتونس، ومجلة الرابطة العربية الصادرة في مصر.
ساهم في جريدة المنتقد بداية من العدد الثالث الصادر في 16 جويلية 1925. كانت كل مقالاته مثيرة ونقدية، توقظ النائمين، وتحرك الجامدين وتنبه الغافلين وتستفز الظالمين، ويكفي أن أشير هنا إلى عناوينها لتتأكد من هذا الكلام: “الملوكية ضمن الجمهورية !” (العدد 3)، ” العقل الجزائري في خطر !” (العدد 6)، “المصلحون والمرجفون” (العدد 14)، ” هذه جزائركم تحتضر” (العدد 18). ونلاحظ أيضا هذه النزعة النقدية السياسية والاجتماعية في كتاباته الأولى في جريدة الشهاب. فكان مقاله الأول (العدد 4) تناول مسألة العدالة مؤكداً غيابها التام في الجزائر خاصة في مجال الصحافة والتعليم التي حرم منهما الجزائريون في عقر ديارهم.
نشر الشيخ مبارك الميلي مقالات إصلاحية وتوجيهات تربوية في جرائد جمعية العلماء خاصة البصائر التي أدارها خلال سنتين (1937-1939) بحزم وإخلاص إلى أن قررت الجمعية إيقاف الجريدة عشية اندلاع الحرب العالمية الثانية.
أما خارج الجزائر، فكتاباته الصحفية قليلة جدا. لقد نشر في عام 1924 قصيدة في جريدة النهضة وهي مساهمة في تشطير مقطع شعري لزميله في الدراسة محمد السعيد الزاهري. كما راسل المجلة الزيتونية ليثني على المسؤولين عليها ويدعوهم إلى التبسيط غير المخل وتجنب التعقيد حتى يستفيد العام والخاص من ثمرات المجلة. لا شك أن للمجلة أهدافها العلمية ولكن لا يجب أن تهمل أيضاً رسالة الدعوة والتنوير والتوعية.
كذلك رد الشيخ الميلي على رسالة مجلة الرابطة العربية التي استكتبت قادة الفكر والسياسة في العالم العربي في مسألة إمكان إنشاء الإمبراطورية العربية”. وكان جوابه في غاية الواقعية والحكمة. فبعد أن استنكر لفظة الإمبراطورية واقترح لفظة العالم العربي، نصح بعدم المساس بنظم الحكم لأن الظروف غير مناسبة، ,إنما الأولوية في توحيد العالم العربي في مظاهره الحيوية كالثقافة والأخلاق والدين، وتنمية الروابط بين الشعوب العربية وتجنب الوحدة السياسية التي ستتحقق بلا شك نتيجة تحقيق الوحدة الثقافية والأخلاقية والدينية.
تراث الشيخ الميلي
كتب العديد من رجال الإصلاح والتاريخ عن الشيخ مبارك الميلي وأعماله. فقد كان فضل السبق لجريدة البصائر التي تحرص كل عام على إحياء ذكرى وفاته. فكتب عنه معاصروه أمثال محمد البشير الإبراهيمي، أحمد توفيق المدني، أحمد بوزيد قصيبة، حمزة بوكوشة، علي مرحوم، الصادق حماني، أبو بكر الأغواطي، أحمد سحنون، محمود بوزوزو، إبراهيم مزهودي، أحمد بن ذياب، الخ.
وخصصت له المجلة الزيتونية ملفا كاملا ساهم فيه عدد من العلماء والأدباء والشعراء أمثال محمد الصالح النيفر، عبد الحفيظ الجنان، عبد الحميد زروق، حسين المهدي.
صدرت عنه عدة دراسات بأقلام حمزة بوكوشة، أحمد بن ذياب، وعبد الرحمان الجيلالي ومحمد الصالح رمضان غيرهم. وفي مجال البحث الأكاديمي، نوقشت رسالتان (ماجستير) في رحاب جامعة الأمير عبد القادر الإسلامية بقسنطينة حول كتاباته التاريخية والعقدية.
كما نشر الباحث الدكتور أحمد صاري بحثا في مجلة جامعة الأمير عبد القادر الإسلامية حول دور الشيخ الميلي في الحركة الإصلاحية. وقدم الأستاذ منور مروش قراءة نقدية لكتاب “تاريخ الجزائر في القديم والحديث”في مجلة نقد. وكتب الباحث التونسي الدكتور محمد صالح الجابري دراسة قيمة حول الشيخ الميلي في الصحافة التونسية.
أما ما يتعلق بتراث الشيخ الميلي، فقد جمع ابنه الأستاذ محمد الميلي مقالات الشيخ مبارك الميلي وعدد ا من الشهادات والمقالات التي تناولت حياة الشيخ الميلي وأعماله. وجمع الدكتور أحمد الرفاعي شرفي مقالاته ضمن كتابه: “مقالات وآراء علماء جمعية العلماء المسلمين”. كما نشرت دار الرشاد الجزائرية في عام 2012 آثار الشيخ الميلي في 4 أجزاء. لكن كل هذه الأعمال تحتاج إلى مزيد من البحث العلمي والتحقيق الرصين، لنستخرج الكنوز التي تتضمنها هذه الكتابات ونستفيد من جواهرها الحسان.
لقد استطاع الشيخ مبارك الميلي رحمه الله رغم استقراره في ميلة بعيدا عن الحواضر الجزائرية (قسنطينة وتلمسان والجزائر) التي كانت تحت قيادة عبد الحميد بن باديس ومحمد البشير الإبراهيمي والطيب العقبي، أن يكون ركنا أساسيا في جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، ويصبح من أبرز العلماء الفاعلين والمؤثرين في الحركة الإصلاحية في الجزائر عملا وفكرا، ذلك أنه من المصلحين القلائل الذين جمعوا بين التعليم والتربية والدعوة والإرشاد من جهة، والكتابة والتأليف من جهة أخرى حتى كسر صنم الجهل والشرك وطمس الهوية وتحريف التاريخ.