التسامح ميزة الإسلام/أ.ابراهيم قمور
يظن بعض المفكرين وطائفة من الجماعات المستنيرة، أن الاحتجاجات الصارخة، والأحداث التدميرية التي تتوالى في البلدان الإسلامية، حجة بالغة لإلصاق تهمة العنف والقتل والتخريب بالدين الإسلامي الحنيف، وهي تهمة أصبحت تخيف الذين يطمئنون إلى ترويجها من غير تثبت وتحقيق. ويصدر هؤلاء أحكامهم على أساس وقائع طارئة، تنطلق نحو التغيير إلى الأفضل ثم تتعثر في بعض العقبات الصلبة، ولو توقف هؤلاء عند الإطلاع على مضامين الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والسيرة المحمدية المضيئة، لوجدوا ما يغني عن الشك في حرص هذا الدين –الإسلامي- على زرع نبات التسامح في حقول المعاملات بمختلف أنواعها ومجالاتها، ولو رجع هؤلاء إلى مقررات التاريخ الذي عرفته الأمم السابقة من قبل، لرأوا بالعين المجردة، مقدار تسامح المسلمين مع غيرهم، عندما كانت القوة المادية بين أيديهم، فقد تسامحوا مع الأجانب، وشجعوا على التواصل الفكري والتعاون العلمي، وليعلم هؤلاء وأولئك أن الاحتجاجات العنيفة، والوقائع التدميرية، ليست من الدين الإسلامي في شيء، إنما هي ظاهرة خارجية جاءت بسبب البحث عن الأفضل، وذلك لأنه في عهد ازدهار الحضارة الإسلامية الرائعة، انتشر وساد تسامح صادق لم تعرف البشرية مثله في العالم القديم والحديث أيضا، وكانت الحرية مدهشة أمام تعصب الغربيين وأنانيتهم وتسلطهم على مجريات النشاط.
وقد نقل عن أحد علماء الكلام المسلمين، أنه كان يحضر في “بغداد” يوم كانت ساطعة أنوارها، دروسا كثيرة في الفلسفة يشترك فيها أهل الكتاب وغيرهم، وكان الحاضرون يستمعون إلى المحاضرين، على اختلافهم، باحترام كبير، وكان بعضهم يستند في أحكامه إلى الأدلة العقلية وحدها، وهذا الاتجاه من أسرار ازدهار النهضة العلمية يومئذ، وذلك لأنه لا يمكن أن تنبعث نهضة قوية صحيحة وخالية من المعوقات، في وقت يقيد فيه الفكر ويدفع في طريق مضلل، وينتهي به الأمر إلى التوقف.
ففي نطاق هذا التسامح الذي يشمل الفكر والسياسة، والذي ننوه به على أنه من المميزات الجوهرية لديننا الإسلامي الحنيف، أن الخلفاء والأمراء المسلمين فتحوا الأبواب أمام أهل الكتاب ليتقلدوا مناصب رفيعة في النظام الإداري، وكذلك في البحث العلمي، ولهذا التسامح الذي يجري الحديث عنه اليوم بإعجاب وافتخار، أثر فعال في حركة الإحياء العلمي والبناء الحضاري الذي تولاه المفكرون المسلمون، بعد الفتوحات التي ساهمت في حماية العلماء الفارين من الاضطهادات التي سلطت عليهم من جانب المحاربين للعقل والمعطلين للفكر، وقد لقي أولئك، العلماء الهاربون من القهر الرماني وغيرهم، تسامحا وتشجيعا لدى الحكام المسلمين..ولما كان الدين الإسلامي الحنيف واقعيا في العقيدة والتنظيم والتسيير، فقد حض المؤمنين به على الاستزادة من العلم، وعدم الاكتفاء بما ورثوه من المدارس القديمة في حران والإسكندرية وغيرهما، والتي اختلطت فيها عناصر الثقافة اليونانية والفارسية والهنود والرمان، وكانت من مقومات تلك الحياة المتفاعلة والمملوءة بالبحث والحوار والإحياء والابتكار معا.
وأعان العلماء المسلمون انتشار معاملات التسامح بالمقدار الذي مكنت منه علوم وثقافة عهدهم، وفي هذا الصدد يقول أحد العقلاء: العالم اليوم في أشد الحاجة إلى ذلك التسامح المضيء على المستويات الدينية والفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، لأنه أمر ينشئ التعايش الإيجابي المفيد للجميع، بعيدا عن الصراع البغيض، ولأن التقارب بين الثقافات والتفاهم بين المقاصد مما يفضي إلى التآزر بين الحضارات.
ومن المؤكد أن ديننا الإسلامي يسعى من خلال مبادئه وتوجيهاته الأصيلة والفرعية، إلى تربية المسلمين على خلق التسامح إزاء كل التيارات، وعلى استخدام العقل استخداما يجعل للحرية مكانة رفيعة في أبحاثه، النظرية والعملية، وعلى تمكين الآخرين من ممارسة ما يحتاجون إليه من حرية.
ولما كان ديننا الإسلامي دين الوضوح والترتيب في العبادات والمعاملات والسلوك، فإنه لا يكتفي بمبدإ التسامح الخيالي، وإنما يرشد إلى الالتزام باحترام عقيدة وثقافة وخصوصيات الآخرين، ولا ينبغي أن يكون الخلاف مثارا للشقاق والنزاع، عوض أن يكون مبعثا للتعارف والتآلف والتعاون أيضا، ومع الأسف المشوب بالمرارة نرى أن التسامح بين المسلمين قد أصبح ضعيفا إن لم يكن منعدما ذهبت به الأزمنة، وقد تهاوى إلى الحضيض حتى بين أعضاء وأفراد المجتمع الواحد، وذلك مخالف أشد المخالفة وأقساها لإرشادات وأوامر ديننا الإسلامي الذي أينما يكون الصلاح والخير والنجاح، يحضر مشجعا ومباركا وداعيا إلى الاستزادة القوية.
وعلى الذين يملك الخوف من الإسلام أمرهم، ويصفونه بالإرهاب والتقتيل والتخريب والتعصب، أن يرجعوا إلى شيء من الصواب، ويكون ذلك بفحص ما عندهم من معتقدات ومعلومات، ومقارنتها بما يجدونه في المصادر الصحيحة للإسلام، وأي مفهوم أبلغ مما جاء في الآية (46) من سورة العنكبوت والقائلة:{وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} إنه منهج يحفظ الاحترام المتبادل، والسعي إلى الفهم والإفهام بهدوء وبرهان ساطع، لا مجال فيه للإرهاب والعنف.