مختصر تفسير ابن عاشور
14- {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ}:
ذكرت الآية الخيل التي تحمل علامتها، والأنعام التي هي زينة أيضا، فيها جمال ومنافع، ويتعلق بها أهل البادية، وإن أهل المدن أيضا يحبون مشاهدتها، ويرتاحون لمناظرها، كما قال تعالى:﴿وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ﴾[النحل/6]، وقوله:﴿وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ﴾[النحل/5].
والحرث: أصل الحرثَ شق الأرض لزرعها أو غرس الأشجار فيها، وهو مصدر يطلق على الأرض المحروثة، كما يطلق على الجنات، وحوائط النخيل، وحقول الزرع، “ذلك متاع الحياة الدنيا” الإشارة بذلك إلى كل ما تقوم مما تشتهيه الأنفس، ويراد باسم الإشارة هنا البُعد، وهو مجاز بمعنى الرفعة والنفاسة لمن يتذوق أسرار العربية. والمتاع ما يستمتع به مدة قليلة.
“والله عنده حسن المآب”: أي أن ثواب الله خير من ذلك كله وأفضل، والمآب من آب يؤوب فهو مصدر، والمقصود من هذه الجملة حسن العاقبة في الدنيا والآخرة.
15- {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}:
المخاطب هو النبي، صلى الله عليه وسلم، وافتتح الكلام بكلمة “قل” للاهتمام بالمقول، والآية يدل سياقها على الغضّ من هذه الشهوات، لأنها متاع قليل، وقوله: “أؤنبئكم” فيه استفهام تشويقا للنفوس لتلقي ما يقال لها.
وجملة “للذين اتقوا عند ربهم جنات”: هذا هو النبأ، وهذا الخير هو الجنات والأزواج من النعم والأنس، وأضيف إلى ذلك رضوان الله وهو أعظم من كل نعيم مادي، لأنه قرب روحاني، ووصف في آية أخرى بأنه أكبر “ورضوان من الله أكبر”.
“والله بصير بالعباد”: أي أنه عليم بالذين اتقوا وبدرجات تقواهم، وعُدّي “بصير” بالباء لتضمنه معنى عليم، ومعنى ذلك أنه يجازيهم، وإظهار اسم الجلالة في هذه الجملة قصد به استقلال الجملة، لتكون كالمثل المضروب.
16- {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}:
وصف هؤلاء بالمتقين وبالتوجه إلى الله سائلين المغفرة، والقول هنا يدل على قوة الرغبة في الدعاء.
17- {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ}:
هذه صفات المتقين، وهي الصفات الفاضلة للمتدينين من الصبر، وهو الدافع إلى الطاعات وترك المنهيات، والصدق أساس الاستقامة، والثقة بين الناس، والقنوت الدال على ملازمة العبادات في أوقاتها وإتقانها وهو عبادة نفسية جسدية معا.
والإنفاق وهو أصل إقامة كفاية حاجات المحتاجين، وقربة مالية، والمال عزيز، فهو شقيق النفس. أما الاستغفار بالسحر من دعاء وصلاة أواخر الليل فهو إخلاص في العبادة، في وقت هدوء النفوس والتجرد من الشواغل، دال على اهتمام صاحبه بأمر الآخرة، وعطف هذه الصفات بعضها على بعض إشارة دالة على كمال الموصوف في كل صفة منها؛ وإن كان الأصل في تعدد الأخبار والصفات ترك العطف، لذلك فإن ترك العطف يؤذن بمعنى خاص يتصدر إليه البليغ، فإذا أعطفت فقد نزّلت كل صفة منزلة مستقلة الكمال الموصوف في تلك الصفة في نظر صاحب الكشاف.
18- {شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}:
هذه شهادة الله والملائكة وأولي العلم بالتوحيد، وهو أساس الإسلام، ذلك التوحيد الخالص من كل شائبة من شوائب الشرك، وفي الآية تعريض بالمشركين، واليهود، والنصارى، وإن تفاوتوا في مراتب الإشراك.
وحقيقة الشهادة تصديق خبر مخبر، وقد يكذّب به خبر آخر، وأطلق على الخبر الذي لا شك فيه، ومعنى شهادة الله تحقيق وحدانيته بالأدلة التي أقامها على ذلك، وشهادة الملائكة تحقيق ذلك فيما بينهم، وتبليغ بعض الملائكة ذلك إلى الرسل، وشهادة أهل العلم تحقيق ذلك بالأدلة العقلية.
ويمكن أن تدل كلمة: “شهد” على “بيّن” وأقام الأدلة، وشبه الاستدلال بإيجاد الكون وغيره من الأدلة بشهادة الشاهد بتصديق الدعوى في البيان والكشف، وتكون شهادة الملائكة وأولي العلم أيضا هو الإقرار، إقرار الملائكة، واحتجاج أولي العلم وأدلتهم، “قائما بالقسط” كما شهد بوحدانيته شهد أيضا بالعدل، لأن هذه الشهادة قيام بالقسط، ومواظبة عليه، والقسط هو العدل مختصر من القسطاس من اللغة اللاتينية، كما يطلق القسط والقسطاس على الميزان أيضا، وقيام الله بالقسط في تكوين العوالم ونظمها، وما تخضع له من قوانين، وبقاء الأنواع، وخلق أسباب المدافعة في نفوس الكائنات، ووضع الشرائع في الاعتقادات والأعمال، وهي موازين تحكم العلاقات بين الناس.
“لا إله إلا الله” هذه عبارة قصد بها تمجيد الله، ناشئ عن شهادة الموجودات كلها له بالتوحيد وتلقين للإقرار له بذلك، وختمت الآية بعزة الله وحكمته في شهادته وشهادة الموجودات.
19- {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ}:
هذا الاستئناف بياني قصد به بيان فضيلة هذا الدين، بأوجز عبارة وأجمعها، وشروع في بيان أو غرض من أغراض هذه السورة وهو غرض محاجة النصارى الذين قدموا من نجران إلى المدينة.
وأكد الكلام “بأن” توكيدا وتحقيقا لمضمون حصر حقيقة الدين عند الله في الإسلام، لبلوغه الكمال.
ويطلق الدين في الأصل على الجزاء، ثم أصبح حقيقة عرفية في مجموع العقائد والأعمال التي تكوّن حقيقته، وسمي ذلك دينا لأن أتباعه يترقبون الجزاء عليه، في الدنيا والآخرة، وعرّف بعض العلماء الدين بأنه “وضع إلهي سائق لذوي العقول باختيارهم المحمود إلى الخير ظاهرا وباطنا”.
والإسلام علم بالغلبة على مجموع الدين الذي جاء به محمد، صلى الله عليه وسلم، وأطلق على الإيمان بذلك أيضا، ولذلك لقب أتباعه بالمسلمين وبالمؤمنين، وهي تسمية بمصدر أسْلَم إذا أذعن لله إذعانا لا عناد فيه، اعترافا بالحق، وعملا به، قال تعالى:﴿ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ﴾[آل عمران/20]، وهذه الجملة صيغة حصر، حصر المسند إليه وهو الدين في المسند وهو الإسلام، وذلك بتعريف جزئي الجملة، أي لا دين إلا الإسلام، وأكد هذا الحصر بحرف التوكيد، وهو إن. ولفظ “عند الله” تدل على أنه هو المعتبر عند الله، لتمامه بالنسبة للأديان التي نزلت قبله، ولكماله، فلا أكمل منه، وما قبله، إنما يغني بحاجات معينة لأمة معينة في زمن معين، ومراد الله من إرسال شرائعه على أيدي رسله إنما هو أن يعملوا بذلك، وضعت الشرائع مناسبة لقابليات الناس في عصر معين، وجارية على قدر عقولهم ومقدرتهم، ليتمكنوا من العمل بانتظام. ولما بلغ البشر هذا العصر مبلغا من النضج العقلي والوجداني وهو هذا الأجل المعين الذي ظهر فيه الإسلام، فكان شريعة خاتمة عامة حقا، لا تقتصر على جماعة، ولا على أمة معينة، في وقت مناسب لظهوره بين أمة لم يسبق لها سابقة حضارة وسلطان، ولا كانت يومئذ ذات سيادة على كل شيء من المعمورة، وإنما هي أمة سلّمها إليه من معظم رعونات الأمم وتلوثها بالمذاهب الزائفة والتيارات المتنازعة، فكانت على الفطرة، وأقرب إلى قبول الحق، ونزل هذا الدين على رجل منهم لم يكن من أهل العلم، ولا من ذوي السلطان، ولا من ذرية ملوك.
وأشار ابن عاشور إلى ما فسر به ابن سينا الفطرة، “كأن الإنسان الفطري جعل في الدنيا دفعة واحدة، وهو عاقل، لم يسمع رأيا، ولم يعتقد مذهبا، ولم يعاشر أمة، لكنه شاهد المحسوسات، ثم يعرض على ذهنه الأشياء شيئا فشيئا، فإن أمكنه الشك في شيء، فالفطرة لا تشهد به، وإن لم يمكنه الشك فيه فالفطرة توجبه، وليس كل ما توجبه الفطرة بصادق، بل الصادق ما تشهد به فطرة القوة التي تسمى عقلا، قبل أن يعترضه الوهم”.