التجربة التركية.. في عين الإعصار/أ.د عبد الرزاق قسوم
كنت، ولا أزال معتقدا، أن التجربة التركية الإسلامية، ببصماتها المتنوعة، النورسية والأربكانية، والكولنية، والأردوغانية، هي تجربة يجب أن تتخذ مثلا يحتذى.
فقد تجسدت هذه الثورة التغييرية السلمية، في جانبها الفكري الفلسفي، بقيادة سعيد النورسي، وفي مجالها التربوي الاجتماعي بتوجيه من فتح الله كولن، وعلى الصعيد السياسي الاقتصادي بزعامة الطيب رجب أردوغان، فقدمت للعالم صورة عن منهجية للتغيير بلا دماء أو دموع، في ظل الفهم الصحيح للإسلام.
ومما زاد التجربة التركية قيمة أنها خرجت من رحم تنظيم عسكري مستبد، كتم الأنفاس، وضيق على الناس حتى في الشكل واللباس، فجاءت الثورة التغييرية المستلهمة من واقعية الإسلام وسماحته، لتكون رد فعل إيجابي، أعاد للشعب التركي روحه المرصودة، وكرامته المفقودة، وحريته المنشودة.
لقد عانى الشعب التركي، عقودا طويلة من حكم العسكر، الذي جعل من تركيا “الرجل المريض” و”شعب الله المحتار”، فانعكس ذلك على اقتصادها المتدهور، وعلى موقعها المتأخر، وعلى جيشها المتنمر.
واليوم إذ تعود تركيا إلى ذاتها الحضارية تعود معها الابتسامة إلى المُواطن، والاستقامة إلى المتساكن، والتنمية المستدامة إلى كل الميادين والأماكن، والاستقرار في البوادي والمدائن.
فهذه الخدمة التي جعلها شعارا له التنظيم التركي الإسلامي تحت لواء الزعيم الروحي فتح الله كولن، قد فتحت آفاقا جديدة وسعيدة للعمل الإسلامي بحكمة وتربية حسنة، فشيدت المدارس والمؤسسات، وحشدت الإرادات الحسنة، في أعمال سبل الخيرات، فتكوّن جيل جديد، يتوق إلى البناء، وإلى حمل المشعل، بواقعية الإمكانات.
يغيب الإنسان عن تركيا، شهورا، فيعود إليها، ليجدها قد ازدهرت، في تجارتها واقتصادها، وعلاقاتها الاجتماعية، وما ذلك إلا بفضل أخلقة السياسة، وتقدم العلم والدراسة، وتنافس الجميع في الخير، بعيدا عن ملابسات الرئاسة.
ولقد هال أمر تركيا الحساد، وذوي الأحقاد، الذين لا يروقهم نجاح الأبناء والأحفاد، لتصحيح أخطاء الأجداد، فأخذوا يصيدون في الماء العكر، وينزغون نزغ الشيطان بين الإخوان، وهاهم يشيعون الفساد بين العباد، ويملأون القلوب بالمكائد والأحقاد، ويعملون على زرع الفتن بين المخلصين من قادة البلاد.
أتيح لي أن أزور تركيا حديثا، بدعوة كريمة من مجلة “حِراء” الغراء، للمشاركة في اجتماع الخبراء لإعداد المؤتمر الدولي القادم حول الاجتهاد والقياس، وكنت واجف القلب مما تبثه وتبالغ فيه وسائل الإعلام المغرضة، من وجود شق في صفوف العاملين في الحقل الإسلامي، للنهوض بالوطن، فما وجدت –والحمد لله- إلا العمل الدؤوب، والمواطن الطروب، والتنافس على إنجاز المرغوب للمطلوب.
فإذا كانت المدينة، تنفث أحيانا خبثها، وإذا كان لابد من إزالة الصدأ، عن بعض الأجهزة، فإن ذلك التطهير ينبغي أن يندرج في “المراجعة” لا في “التراجع”.
إن تركيا في تجربتها الإسلامية الجديدة قد نجحت في شق طريقها الريادي على الصعيدين السياسي الاقتصادي، والاجتماعي التربوي، وأعطت مفهوما جديدا، لمعنى الربيع العربي، بعيدا عن العنف، والقصف، وذلك بالعناية بالحقول والعقول، وزرعها بالصالح من النبت والأزهار، ليسود الاستقرار ويعم الازدهار.
ولا عيب أن تتم عملية التطهير بالقضاء على الفساد إذا أصاب بعض العقول، وعلى اجتثاث الخُشب المسنّدة، إذا هي عطلت نمو الحقول.
نعتقد أن تركيا قد ودعت إلى الأبد عصر القحط والجفاف، لتزيد من تنمية العدل والإنصاف. ولا أنجع أو أجدى من رص الصفوف داخل الحاملين للرسالة، والمؤتمنين على عمق انتماء السلالة.
فيا إخوتنا في تركيا!
نعيذكم بالله من السلب بعد العطاء، ومن الشتات بعد الإخاء، ومن شماتة الأعداء، فلا تتركوا للشياطين فرصة تعكير الأجواء، والعبث بما زرعه الآباء.
لقد رسمتم بعزمكم، وحزمكم، خريطة طريق، وهي رسالة خالدة، فحذار أن تمسوها بسوء فتتحول إلى تجارة كاسدة، وبضاعة فاسدة. إن عيون المسلمين، وكل الإنسانيين، مشرئبة إليكم، فلا تخيبوا الآمال، بل إلى المزيد من صالح الأعمال.
إن الطريق طويل، والحمل ثقيل، والزاد قليل، ولكن العزم نبيل، فحذار، أن تحيدوا –يا إخوتنا الأتراك- عن المنهج القويم، والسبيل السليم.
﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ صدق الله العظيم.