تفرض بعض البنوك على الديون المترتبة على متعامليها مبلغاً أو نسبة زائدة على أصل الدَّين يدفعها المدين إذا تأخّر في سداد الدّين عن أجله المحدّد، لا إن لم يتأخر، وذلك لزجر المدين عن التأخر، ولتعويض ما يلحقها من ضرر إذا تأخر، فما حكم ذلك؟ الجواب ينبني على تكييف هذه المعاملة، والتكييف يتعلَّق بالإشكاليات التالية:
1. ما حكم معاقبة المدين الموسر المماطل على ظلمه، لغرض زجره عن المماطلة؟ وهل يجوز تعزيره بأخذ المال؟
2. التعزير بأخذ المال تقديرا وصرفا اختصاص مَن؟ وما موقع الأفراد والخواص (كالبنوك) من ذلك؟
3. ما ضابط ما يعتبر ضررًا واقعًا على البنك مستلزمًا للتعويض؟
4. التعزير بالمال في الديون هل هو ربا؟
فأمّا الإشكال الأول: فقد اتفق الفقهاء أنّ المطل في السداد ممن كان موسرا واجدا غنيا ظلمٌ للدائن وإثم وعدوان، واتفقوا على جواز فرض العقوبة التعزيرية على هذا المدين بضرب أو حبس أو نحو ذلك، لقوله r: (لَـيُّ الواجد يحلُّ عقوبته وعرضه) الحاكم، غير أنه لم يُنقل عن الفقهاء عقوبته بالمال، والحديث عامٌّ في العقوبة، فيدخل فيه التعزير بأخذ المال، لعموم جواز التعزير بأخذ المال على المختار، واتفقوا على وجوب إنظار المعسر، وعدم جواز عقوبته، لقوله تعالى:(فإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة)، وضابط الإعسار: (ألا يكون له مالٌ زائدٌ عن حوائجه الأصلية يفي بدينه نقدا أو عينا)، وإثبات الإعسار يكون على المدين.
وقد اختلف الفقهاء في حكم التعزير بأخذ المال (أعني عموما)، فقال الشافعي في الجديد، وأكثر الحنفية، وبعض المالكية، وأحمد في رواية: لا يجوز التعزير بأخذ المال، وذهب أبو يوسف وجماعة من الحنفية، وجماعة من المالكية، والشافعي في القديم، وأحمد في المنصوص عنه، وابن حزم إلى جواز التعزير بأخذ المال، وهو المختار، لقوله r لمـّا سُئل عن الثمر المعلّق:(ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثليه والعقوبة) أبو داود، وقوله في شأن الزكاة: (من أعطاها مؤتجراً فله أجرها، ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا تبارك وتعالى …) أبو داود، ولثبوت التعزير بأخذ المال عن الصحابة y، كعمر وعثمان وابن عباس وغيرهم، فإذا جاز تعزير المدين الموسر المماطل، وجاز التعزير بأخذ المال بصفة عامة؛ جاز تعزير المدين الموسر المماطل بأخذ المال نتيجةً للمقدمتين، إلاّ أن يُخشى من التعزير بأخذ المال في الديون الوقوع في الربا، فنجيب عليه في الإشكال الرابع.
وأما الإشكال الثاني: فقد اتفق الفقهاء أنّ التعزير بالمال من اختصاصات السلطة القضائية، تقديراً وصرفًا، ولا يحلّ للأفراد والخواص الاختصاص بذلك، لأنّ الغرض الزجر، وما يحصل به ذلك لا يُترك لاجتهاد كلّ أحد، وإلا انفرط الأمر. فينبني على جوابنا على هذين الإشكالين: جواز أن يفرض البنك عقوبة مالية تعزيرية على المدين الموسر إذا تأخر في السداد، على أن يُرجع في تقدير العقوبة إلى السلطة القضائية، وعلى أن تُصرف في المصالح العامة ووجوه البر، ولا يأخذها البنك لنفسه، فإذا كان تقدير السلطة القضائية غير زاجر، لاعتمادها على نسبة البنوك الربوية وهي نسبة مخفضة فيما تعلق بتأخير السداد؛ نظرا لفرضهم نسبة على الدين مطلقا حتى لو سدّده في أجله، فيمكن اللجوء إلى جهة تحكيمية متخصِّصة.
وأمّا الإشكال الثالث: فقد اختلف فيه الفقهاء المعاصرون، فقال بعضهم: مجرد فوات الرّبح الذي كان يتوقع أن يحصِّله البنك لولا مماطلة أصحاب الديون:- ضرر، وقال آخرون: ليس ذلك بضرر، والذي يظهر لي أنّ الضرر ينحصر في التكاليف والأعباء المالية التي تحمّلها البنك خلال فترة المماطلة، والتي تسبّبت فيها المماطلة مباشرة، كتحمّل البنك لغرامة معينة بسبب تأخره في سداد ما عليه لمتعامليه؛ نظرا لانعدام السيولة لديه، فللبنك أن يرجع بما تحمّله على المدين المماطل، وليس ضررًا فواتُ الربح الزائد عن هذا القدر، وإذا أثبت المدين أنّ الدائن لم يقع عليه أي ضرر فلا تعويض، وبهذا يختلف الأمر عن الشرط الجزائي؛ إذ ليس متعلِّقاً بالضّرر الواقع، بل بالضرر المتوقع، أي: أنّ المدين يدفع “التعويض” بمقتضى الشرط الجزائي بمجرد التأخير، وقع الضرر فعلا، أم لا، وليس للمدين إثبات عدم الضرر، ونحن حصرنا الجواز في الضرر الواقع على ما فسرناه.
وأما الإشكال الرابع: فكون التعزير بالمال يختص بالموسر المماطل، لا بالمعسر، وكون مقدار التعزير تحدِّده السلطة القضائية أو الجهة التحكيمية ولا يحدّده البنك، وكونه يتحقق به غرض الزجر، وكونه يُصرف لغير البنك، بل لجهات خيرية، إلا ما يكون من تعويض الأضرار التي تحملها البنك وتسببت فيها المماطلة، من غير احتساب للربح المتوقع الزائد عن هذا القدر، فهذا يجعل المسألة تختلف عن الربا جوهرًا وروحًا، فروح الربا إثراءُ الدائن على حساب مدين معسر، بينما هنا عقوبة مدين موسر مماطل تُصرف في المصالح العامة.
فيتحصل لجواز فرض الغرامة والتعويض على التأخر في سداد الدين:
– أن يكون المدين موسرًا، لا معسرًا، وعلى المعسر إثبات إعساره.
– أن يحدِّد مقدارَ العقوبة سلطةٌ قضائية أو جهة تحكيمية، وأن تكون زاجرة فعلا، بحيث لا يفضِّل المدين المماطلة لأنها تدرّ عليه ربحا لا تضره العقوبة، وأن تُصرف في وجوه الخير والمصالح العامة، ولا يتملكها البنك.
– أن يكون التعويض على تكاليف مالية تحمّلها البنك فعلا، وتسبّبت فيها المماطلة تسبّبا مباشرا، لا على ربح فائت كان يتوقّع تحصيله لولا المماطلة، وعلى البنك إثبات ذلك، وللمدين نفيه، ويدور التعويض مع الإثبات والنفي، ويحدده القضاء أو هيئة التحكيم، والتعويض يتملكه البنك.
فإذا تخلّف أحد هذه القيود، أو لم يمكن تطبيقها عمليا؛ لا يحلّ فرض الغرامة، ولا التعويض، ولا معاملة من يفرضهما.