إن بعض ما كُشف من سيرة بعض العظماء أبانت عن أشخاص في نفوسهم عُقد، وفي تصرفاتهم ريبة، أوحت بازدواجية مقيتة، قد تنحدر إليها النفس البشرية، حين تُرسِل العنان في السرّ لشهوة تستبد، أو لنزوة تستحكم.
حين نطالع سيرة الرسول، صلى الله عليه وسلم، في البيت وفي المسجد، في السلم وفي الحرب: يجتاحنا الشوق إلى لقياه، ويغمرنا الحنين إلى سماحته، ونستغرب كيف يجرؤ محروم -ماضيا وحاضرا- من النيل من أعظم بشر في الوجود، كان يبغي الخير للناس جميعا.
أخرج البخاري (4/195) عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- “كان يقوم يوم الجمعة إلى شجرة أو نخلة، فقالت امرأة من الأنصار أو رجل: يا رسول الله ألا نجعل لك منبرا؟ قال: إن شئتم! فجعلوا له منبرا، فلما كان يوم الجمعة دُفع إلى المنبر فصاحت النخلة صياح الصبي، ثم نزل النبي -صلى الله عليه وسلم- فضمه إليه، تئن أنين الصبي الذي يسكن، قال: كانت تبكي على ما كانت تسمع من الذكر عندها”.
وعند ابن حبان(14/437): “حنّت الخشبة إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال أنس: وأنا في المسجد، فسمعت الخشبة حنت حنين الولد، فما زالت تحن حتى نزل إليها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فاحتضنها، فسكنت”. وعند الإمام أحمد عن ابن عباس يرفعه إلى الرسول صلى الله عليه و سلم: “لو لم أحتضنه لحنّ إلى يوم القيامة”.
قال ابن حبان(14/437): و”كان الحسن إذا حدث بهذا الحديث بكى، ثم قال: يا عباد الله: الخشبة تحنّ إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، شوقا إليه، لمكانه من الله، فأنتم أحق أن تشتاقوا إلى لقائه”.
الحنين إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، شعور يدركه -بعد-مكابدة- مَن يتعلق بالمثال، ومن يتلذّذ بالتعبد بين يدي ربه، امتثالا للنهج، وتأسيا بالنموذج، يمدّه الشوق إليهما بمدد يعينه على وعورة الطريق، وينير له درب الرحلة الطويلة، وقد يكون الامتثال في أوله باردا لا روح فيه، فإذا علم الله من عبده الصدق أمدّه بالشوق رصيدا، وبالالتياع لذة، أو حرقة تشدّ العبد إلى ربه، وإلى نبيه صلى الله عليه وسلم.
من يكابد الشوق يتجاوز لحظة التذكر، التي يوحي بها احتفال، هو أقرب إلى الفولكلور منه إلى التمثل أو الاعتبار، ولا يلتفت الجادون إلى ما يتلهّى به البطالون، حين يُقنعون أنفسهم بأنهم بهتمون-أو يهيمون- بسيرة الرسول، من خلال إحياء ليلة قد تُحسب على محييها، لما يكتنفها-أو يصاحبها- من أمور لا علاقة لها بجلال المناسبة، وحتى المعجزات التي تُساق، والتي لا يثبت بعضها توحي للعامة بأن هذا الدين أساسه هذه المعجزات، ويجهلون -أو يذهلون- عن معجزة القرآن الكبرى، التي هي الأساس في عملية التعبّد، تلاوة وتدبرا وامتثالا، ومن يتذكر نبيه، صلى الله عليه وسلم، في هذه الليلة -أو يركِّز على ضرورة الاحتفال بها وهو يعلم أن هناك من يبدِّع هذا المسلك- ثم ينساه- وينسى تعاليمه- طيلة السنة: يجني على نفسه، قبل أن يجني على الآخرين، حين يُسعف إدبارهم عن القرآن، بليلة “مهرجانية” تبرر لهم تقاعسهم ونكوصهم.
قال الشيخ الغزالي -رحمه الله- في كتاب: قذائف الحق(182 الشاملة)- ملخصا موقف المسلمين الاحتفالي البعيد عن مقصد الذكرى-: “أذكر أني ذهبت يوماً لأحد التجار كي أصلح شيئاً لي، فاحتفى بي وقدم بعض الأشربة، وأفهمني أنه أتم ما أريد بعد أن وفيته ما أراد، ثم شعرت أن عمله كان ناقصاً، ولا أقول مغشوشاً! فقلت: ليته ما حيا ولا رحب، وأدى ما عليه بصدق! ماذا أستفيد من تحيات لا جد معها ولا إخلاص، والشأن كذلك مع أقوام قد تموج أحفال المولد النبوي بهم، أو قد يصرخون بالصلاة على رسول الله، صلى الله عليه وسلم في أعقاب الأذان، أو قد يؤلفون صلوات من عند أنفسهم يحار المرء في تراكيبها لإغراقها في الخيال، وقد يكون حبهم تمسكاً شديداً ببعض النوافل، وهروباً تاماً من بعض الفرائض، أو حناناً لا ندى معه ولا عطاء…”.