الحريـــة
الحرية نوعان: حرية تجعل الإنسان حرا بأن يأتي ما يشاء، وحرية تجعله حرا أن ما يجب عليه.
والنوع الثاني من الحرية هي ما يناضل العقلاء في نيله، ويضحون في سبيل ذلك بأرواحهم وأموالهم.
والحرية يحددونها بأنها تنتهي حيث تبتدئ حرية الآخرين، أو بأنها تنتهي حين تصبح نقمة على غيرك.
ولكن يبدو أن الكثير من الذين نالوا الحرية لم يفهموا حدودهم فيها، مما جعل حريتهم نقمة على الآخرين وجعل (تورغو) يقول: “أيتها الحرية إني أقول بحسرة إن البشر لا يستحقونك”.
وجعل (مدام رولان) تقول: “أيتها الحرية! ما أكثر الجرائم التي تقترف باسمك!”.
إن معنى الحرية أن يتمكن الإنسان من بناء حياته ومشاركة الآخرين في بناء الحياة العامة، دون أن يكون له قيد يقيده أو يمنعه من الحركة البناءة الصانعة، وليس معنى الحرية أن يتجاوز المرء حدوده، ويتعدى نطاق حقوقه، فيفعل ما يشاء كما يشاء.
والشعب المستعمر مقيد بالسلاسل والأغلال لا يقدر أن يمارس حياته، فيحارب محتلة الغاشم ويضحي بخيرة أبنائه من أجل تحطيم تلك القيود والأغلال، فإذا حطمها تمكن من الحياة، ومن ممارسة ما حرم من ممارسته أيام استعماره، فإذا فهم الحرية بهذا المفهوم وهذا الحد سعد بحريته وبنى بها حياة وصنع مجدا.
أما إذا فهم الحرية، فعل كل ما يريد كما يريد، وأن ينال كل ما حرم منه بالأمس غير مقيد بقانون، ولا نظام، ولا حد، فهناك الخراب والضياع، وإذ ذاك تصبح الحرية أسوأ على الشعب من الاستعمار.
وللحقيقة والتاريخ نلاحظ أن جل الناس عندنا في الجزائر لم يفهموا الحرية فهما صحيحا، بل فهموا أنها التمكن من فعل كل شيء حتى ولو كان فيه مجاوزة الحدود، والتعدي على حقوق الناس، فنرى الواحد إذا هجره النوم ليلا فتح مذياعه وأسمع الداني والقاصي، فإذا لوحظ عليه أن هذا طيش ونزق وتهور، أسمعك أسوأ الألفاظ وأشنع الأوصاف، وقال لك أنا حر أفعل ما أشاء.
وترى شابا في الطريق العام يزعج المارة بصوت مذياعه الذي أطلقه إلى أبعد الحدود، وإذا لوحظ عليه هذا التصرف الناشز الدنيء ثار وهاج وقال لك: إنني حر أفعل ما أريد.
وترى شابا في الحرم الجامعي يعانق فتاة أو يقبلها، فإذا أنكرت عليه ذلك، تحول إلى أفعى ينفث السم، وندمت على ما فعلت.
وترى من يرمي الزبالة في الطريق، ويحول جمال المدينة إلى منظر قبيح تتقزز منه النفوس، فإذا أنكرت عليه سوء عمله، ثار في وجهك، وسخط عليك، وقال لك: إنني حر، فلا حق لك في تدخلك فيما لا يعنيك.
أهذه هي الحرية التي فقدناها في عهد الاحتلال وناضلنا من أجل استعادتها، وضحينا في سبيلها بمليون ونصف مليون من الشهداء؟
أهذه هي الحرية التي كنا نحلم بها، ونتلهف شوقا إلى نيلها، ونردد نشيدها:
قسما بالنازلات الماحقات
والدماء الزاكيات الطاهرات
والبنود اللامعات الخافقات
في الجبال الشامخات الشاهقات
نحن ثرنا فحياة أو ممات
وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر
أن تحيا الجزائر، للبناء والتعمير، لا للهدم والتخريب والتبذير!
أنا تحيا الجزائر للجهاد الأكبر، بعد الجهاد الأصغر من أجل الارتقاء إلى مستوى أمجاد الجزائر وتضحياتها لا من أجل الطيش، والعربدة، والتسكع في الشوارع والأزقة.
إن جيل نوفمبر قد حقق أحلام الأجداد أمثال الأمير عبد القادر، والمقراني، والشيخ بلحداد، وفاطمة نسومر، وابن بولعيد وابن مهيدي وعميروش وعبان رمضان وكريم وغيرهم وحرروا الجزائر، وصنعوا بأشلائهم وجماجمهم مجد الجزائر، فما أشنع وأفظع عار جيل الاستقلال إذا حسبوا أن الحرية التي عادت إلى الجزائر هي “افعل ما أشاء لأنني حر”.
إن أهون الناس وأذلهم وأخزاهم من إذا قيل له: ماذا قدمت ليوم الحساب، سواء أكان ذلك في الدنيا أم في الآخرة، خرس لسانه، واصفر وجهه، وساخت به الأرض، لأنه أخطأ في فهم الحقائق، وحسب الحق باطلا، والنور ظلاما، والانحدار صعودا، فكان من الأخسرين أعمالا:{الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً}(الكهف:104).