فقه الاستبداد في العالم الإسلامي/أ. عبد القادر قلاتي

يتطلع العالم الإسلامي اليوم، إلى تحول شامل لمجمل ركائز الدولة العميقة، التي تركزت في المجال السياسي وفق معادلة صاغتها ثقافة الاستبداد التي تملأ الفضاء السياسي منذ نهاية الخلافة الراشدة، وبداية نظرية الملك العضوض التي فتحت المجال واسعاً للاستبداد، حتى تكرس عميقاً في البنية النفسية والاجتماعية والسياسية للمجتمع والدولة، وأصبح يطبع مجمل الممارسة السياسية، ومن ثم العلاقة القائمة بين الحاكم والمحكوم، التي كانت قد تشكلت وفق صيغة مختلفة تماماً، أساسها الحكم العادل والنقد البناء، فالخليفة الراشد الأول عندما أنيطت به مهمة الخلافة، وقف أمام الناس ليقول لهم قولته المشهورة التي شكلت جوهر نظرية الحكم في الإسلام وهي تجسيد حقيقي لما يجب أن تقوم عليه علاقة الحاكم بالمحكوم، وقف أبو بكر الصديق –رضي الله عن- عند بيعة السقيفة وصدر للناس نظريته للحكم بعد أن حمد الله وأثنى عليه قائلاً: “أما بعد، أيها الناس فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أُريحَ عليه حقه إن شاء الله، والقوى فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم قط إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم“. بهذه الكلمات الوجيزة، استطاع الخليفة الأول أن يقدم تصوراً شاملاً لمسألة الحكم والسياسة، تؤكد حقيقة واضحة، هي امتداد مرحلة الخلافة إلى مرحلة النبوة، فقد كان أبو بكر يكرس مفاهيم ناجزة ضمن دائرة التفكير الذي كان سائداً آنذاك بين الصحابة، والمجتمع الإسلامي الأول، فلو كانت هذه المفاهيم جديدة على مجتمع الصحابة، ما كان ليقوم أحد منهم ليقول لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب لما ولي الخليفة، و هو خليفة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- والحاكم الجديد للمجتمع الإسلامي، بعد الخليفة الأول، ذلك الرد الحازم والواثق: “لو رأينا فيك اعوجاجاً، لقوّمناه بسيوفنا”، فما وسع أمير المؤمنين إلا أن قال: “الحمد لله الذي جعل في أمة محمد -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- من يقَوِّم عمر بسيفه..”. لقد كان المجتمع الإسلامي الأول يملك رصيداً هائلاً من الثقافة السياسية الناضجة، كانت تشكل الحصن الحصين ضد تسرب ثقافة الاستبداد والظلم، التي كانت تطبع المجتمع العربي قبل مجيء الرسالة الخاتمة، فلما جاء الإسلام نسخ كل الممارسات المنافية للمنطق الإنساني، وسوّق نموذجه المتعالي على الصيغ التي كانت متداولة يومها في المجال السياسي، ودفع بالفرد والمجتمع نحو عقد اجتماعي جديد، يخوّل للمحكوم المشاركة في اختيار من يحكمه، انطلاقاً من آلية سياسية تحدد للفرد قيمته الاجتماعية والسياسية، وهو ما اصطلح عليه بالبيعة، وان كانت هذه الآلية قد حافظت على وجودها بعد الخلافة الراشدة، إلا أنّها استفرغت من مضمونها السياسي، لتصبح مجرد آلية صورية تسبغ على الحاكم المختار مسبقاً، شرعيةً دينيةً وقبولاً سياسياً يغطي عوار الكفاءة عند هذا الحاكم أو ذاك، وما تزال الأنظمة الحاكمة عندنا اليوم، تستنجد بهذه الآلية لما لها من صبغة دينية، رغم وجود آلية سياسية أخرى، تسربت إلى واقعنا السياسي مع ما تسرب من مفاهيم الدولة الحديثة، وهي الديمقراطية؛ و بالرغم من أن أنظمة الاستبداد تستخدم الديمقراطية كآلية حديثة في المجال السياسي، إلا أنها تبطل مفعولها لصالح ما يسمى بالبيعة المفرغة أصلاً من مضمونها الشرعيّ، وبدل أن نقطع مع ثقافة الاستبداد التي تسربت إلى كيان الأمة الإسلامية، مع نهاية الخلافة الراشدة، كرّسنا هذه الثقافة –ثقافة الاستبداد – في البنية النفسية للفرد والمجتمع وأجهزة الدولة، ومن هنا تمكنت الأنظمة العربية والإسلامية، بعد مرحلة الاستعمار الغربي، من تكوين دول مشوّهة في أجهزتها ونظامها وتسبيرها، بعيدة كلّ البعد عن مفاهيم الدولة الحديثة، والسبب الرئيس هو دائماً الاستبداد الذي تحول إلى أصل أصيل في الفعل السياسي العربي والإسلامي، وغاب العدل الذي هو أساس الحكم، ومركز التّصور الإسلامي لمسألة السياسة والدولة. والله المستعان.