وفعل فعلتهم العسكر، لقد حوّلوا مصر –باسم الجمهور المقهور، والدستور شاهد الزور- حوّلوها من ضفاف الرّبيع العَربي الأخضر، إلى خط النار الأحمر.
مصر الكِنانة، الآمنة، المطمئنة، غُيِّر مجرى نهر تاريخها؛ من نظام يقوده رئيس شرعي مُنتَخب، مشهور إلى رئيس مختطِف مغدور، ومن دستور شرعي زّكاه شعب حرّ منصور، إلى دستور مفروض وسط جوٍّ متأزّم موتور.
الله، يا مصر العزيزة، مما فعله ويفعله بكِ جيش كنّا نعده لمواجهة الأعداء، ونباهي به أمام المعتدين الألداء، فحوّل سلاحه إلى صدور الأبناء، ونكّل بالآمنين العزَّلِ الأبرياء، وها هو يسوق الجموع من الفتيان والفتيات، الجامعيين الشرفاء إلى مقابر الشهداء أو إلى جحافل السجناء. فعن أيَّة مصر يتحدث الانقلابيون –إذن- بعد هذا الذي ألحقوه بها من الضرّ، وتعاونوا عليها مع قوى المكر والشرّ، وكادوا ويكيدون ضدّها في الجهر والسرّ؟.
وأيّة ديمقراطية هذه التي يجري الاستفتاء فيها في ظلّ الحِراب والنِّصال، والخراب ومنعِ التِجوال، وأحكام القبضة العسكرية على المدنيين من النساء والرجال؟.
فأيًّا كانت النتيجة، لهذا الاستفتاء المزعوم، فإنّ روح الشعب فيه مفقودة، وحرّية أحراره موؤودة، وأيّام صلاحيته معدودة. لم أكن –يعلم الله- في يوم من الأيّام منظمًا في حزب الإخوان المسلمين، وقد أختلِف معهم في بعض جزئيات التنظيم، ولكن حقّهم في الحكم لا ينكره إلا أعشى العينين، وجهدهم في العمل الإسلامي لا يماري فيه إلا ماكر أو جاحد حاد عن النجدين.
دخلت مصر الشقيقة في نفق مظلم، لم يقدِّر عواقبه الذين خططوا للانقلاب، فانخدعوا بالسراب، واغتّروا بقوّة السلاح والحِراب، وما دروا أنّ خلف الشمس سحاب، وخلف الأمن والهدوء غليان واضطراب، فبطل السحر من الساحر الكذَّاب، وانقلب عليه موج الشعب الهادر الغلاَّب.
وعجِبت –والله- لأمر علماء مصر، وعقلائها ومثقفيها، وأدبائها، وفنانيها، كيف انطلت عليهم الخديعة، وحادوا عن طريق الحقّ والشريعة، ووقفوا ضدّ حقّ الإنسان والوطن والطبيعة؟.
فلا يختلف اثنان في أنّ مصر اليوم –بالذات- أحوج ما تكون إلى الاستقرار، لتعمير الخزينة وحماية الديّار، وتشجيع السياحة في كلّ الأمصار، وجمع الكلمة حول الطيّبين الأخيار، فكيف يصوَّغ لمصري وطني عاقل أن يخرِّب البيت على ساكنيه، ويهدد عدل وأمن مصر، بظالميه، ويعزل وطنه عن محيطه ومحبيه؟.
وهل من الحكمة، وضع شعب بكامله في غياهب السّجون، والحكم على تنظيم له امتداداته الداخلية والخارجية في خانة “الخارجين عن القانون” ؟ وانتظار أن يستتب الأمن والاستقرار بهذه الظنون؟. لا يا عقلاء مصر! لا وألف لا، يا أبناء مصر، فأيًّا كانت مواقفكم من الإخوان المسلمين فإنّ مصر تتسّع لكم ولهم، وهم –فيها- قوّة لا يمكن البناء بدونها. وأيًّا كانت قناعتكم ليبراليين كنتم أو علمانيين أو مسيحيين، فإنّ التعايش السلمي هو قدَركم، وإنّ التعاوّن الوطني هو مصدر قوّتكم، فلِمَ تكابرون فيما ليس لكم فيه نصيب من النّجاح؟.
ولِمَ تُمارون فيما ليس لكم فيه حقّ بقوّة البطش والسلاح؟ لا مخرج لكم –جميعًا- والله إلاّ بالمصالحة، والمصارحة، والمصافحة، فعودوا إلى الصّواب، يرحمكم الله، وإنّ لكم في الجزائر لعبرة!.
حذار من سفك المزيد من الدِّماء، فإنّها لا توّلد إلا المزيد من الضغائن والأحقاد! وحذار من المزيد من الزّج بالمخالفين، وتكوين ثكنات من السجناء، فإنّ ذلك لن يزيد إلا إلى تجنيد الشارع وغليانه، وتوّتر الأعصاب، وكلّ ذلك لا يعود إلا بالوبال على اقتصادكم، وبالنكال على استقراركم، وسوء المآل على سمعة وطنكم، وانعكاس ذلك كلّه على تنمية المؤسسات، وجلب السائحين، والسائحات، وإعادة طلاب الجامعات، والثانويات إلى قاعات التدريس والمحاضرات.
إنّنا من موضع حبّنا لمصر الكنانة، نناشد كلّ مصري غيور على وطنه، أن يفعل شيئًا لمصر قبل أن يتسع الخرق على الراقع ويقضي على الأخضر واليابس، ويومئذ لن ينفع الجمهور، ولا الدستور، أمام عظائم الفتن وتعقيد الأمور.
نريد لمن أخذتهم الحميّة العصبية أو الجاهلية، ضدّ حكم الإخوان، نريد لهؤلاء جميعًا، أن يدركوا أنّ البقاء لمصر، ولكن مصر القوّية بكلّ أبنائها، بدء بالإخوان المسلمين، دون إغفال المسيحيين والليبيراليين، والعلمانيين.
فليتحلّ الجميع بالشجاعة الإنسانية، والحكمة الوطنية، والعدالة الدينية، لكي يعيدوا البناء المصري، على أساس الوطن للجميع، ويجب أن يبنيه الجميع.
فهيا، افتحوا أبواب السّجون، وأغلقوا أبواب المحاكم أمام مخالفي الرأي! أعيدوا الشرعية لمصر العزيزة، فليس العيب الوقوع في الخطأ، ولكن العيب كلّ العيب التمادي في هذا الخطأ.