تلخيص تفسير ابن عاشور
إن المراد بالمحكمات من الآيات أنها تتنزل من القرآن منزلة أمة أي أصله ومرجعه الذي يرجع إليه في فهم الكتاب ومقاصده وما يتضمنه من المعاني.
{فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ}(آل عمران:7): إن الآيات المحكمات يتلقاها الناس على طريقة واحدة لوضوحها، أما تلقي المتشابهات فقد اهتمت الآية بحال الذين في قلوبهم زيغ، وكشف شبهتهم إذا اغتروا بها، ولم يهتدوا إلى تأويلها حق التأويل بسبب زيغ في قلوبهم، والقلوب هي محال الإدراك ويقصد بها العقول، والزيغ هو الانحراف عن المقصود والبعد عن الصواب، ويراد بالإتباع الملازمة والمعاودة في الخوض في المتشابه، كملازمة التابع لمتبوعه، وعلة الإتباع هو طلب الفتنة وطلب التأويل من الذين ليسوا أهلا له، فيؤولونه بما يوافق أهواءهم، ويتعمدون حمل الناس على متابعتهم، تكثيرا لأتباعهم، ولذلك ذمّهم الله، ويفعل ذلك المنافقون، والزنادقة، والمشركون، وكل من يجعل البحث في المتشابه الذي يؤدي بهم إلى خلاف ونزاع، وتعصب مقيت، إتباعا للهوى بغير دليل صحيح على تأويله، ولا استناد إلى الاستعمال العربي في الكلام، وهذا التأويل هو الذي يفضي إلى الفتنة، وإلى الشك والإلحاد، ويقصد بالذين في قلوبهم زيغ فيتبعون المتشابه التعريض بنصارى نجران الذين ادعوا أن القرآن يشهد أن الله ثالث ثلاثة، لوقوع ضمير المتكلم جمعا، المتكلم ومعه غيره مثل: خلقنا، وأمرنا، وقضينا، وأن ذلك الضمير يراد به الله، وعيسى، ومريم، وهذا تمويه، فإن الضمير هذا إما للتشريك، وإما لإرادة التعظيم في أساليب العرب في الخطاب.
{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ} المعنى الذين لا قبل لهم بتأويله، وليس التأويل الصحيح لأمثالهم، وقد أمسك السلف عن تأويل المتشابهات التي لا ترجع إلى التشريع.
أما الراسخون في العلم فهم الذين تمكنوا من علم الكتاب، ومعرفة وجوه معانيه ومحامله، بأدلة أرشدتهم إلى مراد الله، ولا تروج عليهم الشبه، ويدل الرسوخ في كلام العرب على الثبات والتمكن في المكان، يقال: رسخت القدم إذا ثبتت عن المشي ولم تتزلزل، ويدل الرسوخ مجازا على كمال العقل، والعلم، فلا تضلله الشبه، ولا الأخطاء في الغالب، فالراسخون في العلم هم العارفون بدقائقه، ويعلمون مواقع التأويل، ويحسنونه، وعطف “الراسخون” على اسم الجلالة تشريفا عظيما لهم، مثل قوله تعالى:{شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ}(آل عمران:18)، وإلى هذا ذهب ابن عباس، ومجاهد، وكثير من المفسرين، وبهذا فليس في القرآن ما استأثر الله بعلمه، فالله أثبت للراسخين في العلم فضلا، ووصفهم بالراسخين يؤذن بأن لهم خصلة هي القدرة على فهم المتشابه، لأن المحكم يستوي كل من يفهم الكلام من ذوي العقول في إدراك مرامي الخطاب ومقاصده، ممن لا زيغ في عقولهم.
ورأي السلف الوقوف على قوله تعالى:{إِلاَّ اللّهُ}، وجملة {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} مستأنفة، والموقف الأول يؤيده وصف الرسوخ في العلم الذي يدل على معنى العلم، والفهم للمعضلات، وهو تأويل المتشابه، ومن الجانب اللغوي فإن الأصل في العطف هو عطف على المفردات لا الجمل، والراسخون معطوف على اسم الجلالة، فيدل ذلك على أنهم يعلمون تأويله، وإلا فإن المسلمين كافة ممن يفهم كلام العرب يستوون في فهمه، ولا معنى لتخصيص الراسخين، ولا فائدة، وأي معنى لرسوخهم إذا لم يعلموا إلا ما يعلمه الجميع؟ وما الرسوخ إلى المعرفة بتصاريف الكلام ومراميه بما أوتي الراسخون من قرائح نافذة، وعقول ذكية عالمة، وهذا ترجيح لأحد الاتجاهين، وليس إبطالا لاتجاه السلف، لأنه قد يوصف بالرسوخ في العلم أيضا من يفرق بين ما يستقيم تأويله، وما لا مطمع فيه.
وقوله:{وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ}يشعر بأن الراسخين يعلمون تأويله بما لهم من رسوخ في العلم، واستدل أصحاب السلف بالوقف على اسم الجلالة به، وجملة{الرَّاسِخُونَ} مستأنفة، أي وأما الراسخون في العلم فيعلمون، ويقول فخر الدين الرازي: لو كانوا عالمين بتأويله لم يكن لهذا الكلام فائدة، فالإيمان بما ظهر معناه أمر غير مستغرب، ورأي السلف يذهب إلى الإيمان بالمتشابهات على إجمالها، وتفويض العلم بالمراد منها إلى الله تعالى، وهذه طريقة سلف علمائنا قبل ظهور شكوك الملحدين، وذلك في عصر الصحابة والتابعين، ويقولون طريقة السلف أسلم أي أكثر سلامة من أن يتأولوا تأويلات لا يدري مدى ما تؤدي إليه من أمور لا تليق بحلال الله، ولا تتسق مع ما شرعه الله من شرائع، واقتنع أهل عصرهم بهذه الطريقة، وانصرفوا عن التعمق والتأويل.
ورأى جمهور من جاء بعد السلف أن تأوّل المتشابهات بمعان من خلال طرائق استعمال العرب في الكلام البليغ من مجار، واستعارة، وتمثيل، وذلك إذا وجد الداعي إلى التأويل من تعطش العلماء الذين اعتادوا النظر والتفكير، وحب الفهم بالجمع بين أدلة القرآن والسنة، وتسمى هذه الطريقة بطريقة الخلف، ويقولون فيها: “إنها طريقة أعلم” أي أنسب بقواعد العلم، وأقوى في تحصيل العلم الذي يقطع جدال الملحدين، وأكثر إقناعا لطالبي الحقائق من المتعلمين، ووصفوا هذا الطريقة أيضا بأنها أحكم، أي أشد إحكاما، والموصوف إنما هو الطريقة لا أهلها، لأن أصحاب الطريقتين من أئمة العلم، وممن سلموا في دينهم من الفتن، والخوض فيها، وليس في ذلك غضاضة، فإن السلف فيهم من لا تخفى عليهم محامل المتشابهات بما أوتوا من ذوق في اللسان العربي، والهدي النبوي، وفيهم من لا يهتم بالبحث فيها، وهذا أسلم للعموم، وجاء من بعدهم فأولوا دفعا للشكوك والإلحاد، وضيق الصدور في الاعتقاد.
ومن التأويل ما يكون فيه ظاهر المعنى أشهر من معنى تأويله، لكن القرائن والأدلة أوجبت صرف اللفظ عن ظاهر معناه، مثل قوله:{بنيناها بأيد}(الذاريات:47)، وقوله: {فإنك بأعيننا}(الطور:48)، فمن قال إن لله أعين أعينا لا يعرف كنهها، أو أن له أيدي ليست كأيدينا، فقد زاد في قوة الاشتباه، ومنها ما يعتبر تأويله احتمالا وتجويزا، ويتعين صرفه عن الظاهر، وتأويله يكون على وجه الاحتمال مثل قوله: {الرحمن على العرش استوى}(ص:5)، وقوله:{هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ}(البقرة:210)، فهذا يجب تأويله قطعا، ولكن لا يدعي أحد أن ما أوله به هو المراد منه، ولكنه وجه من وجوه التأويل وإمكانه.
ونظم الآية جاء على أبلغ تعبير لمقام يسع هذين الوجهين من مذهب السلف والخلف ويسع الطائفتين من علماء الإسلام في مختلف العصور.
{يقولون آمنا به} أي يعلمون تأويله ولا يهجس في قلوبهم شك في وقوع المتشابه.{كل من عند ربنا} أي أن من لم يبلغ الرسوخ في العلم من عامة المسلمين، ولا قبل لهم بتأويله يعلمهم الراسخون الوقوف عند حدود الإيمان، وعدم التطلع إلى ما ليس في إمكانهم فقوله:{آمنا به}: أي آمنا بكونه من عند الله، وإن لم نفهم معناه، وكل من المتشابه والمحكم منزل من عند الله سبحانه.
وقوله:{وما يذكر إلا أولوا الألباب} تذييل دال على الثناء على الراسخين في العلم، لاهتدائهم إلى الفهم السليم، والألباب هي العقول السليمة في إدراكها للحقائق.