فمنذ انكشاف عارنا في بريان، وما خلفه من دمار مادي ومعنوي، ومنذ محنتنا في القرارة، والذين أشعلوا فيها الشرارة، ومنذ ثورة الغضب من جانب شباب ورجلان، وشتّى اعتصامات مناطق في الجبال والسواحل، والوديان، هاهي ذي محتنا تطِّل برأسها من جديد في غرداية، فجدّدت الجراح، وأحدثت الأتراح، وتسببت في النواح على وطن التدين والإصلاح، فيالله لجزائر الفلاَحِ والفلاَّح!.
وهل أتاك –يا قارئي العزيز- نبأ الواحة الآمنة، المطمئنة، التي يلّفها الاخضرار وتزقزق في بساتينها الأطيار، ويملأ واديها خرير مياه الأعين، والأمطار، يأتيها رزقها رغدًا من كلّ مكان، فينعم بنعيمها الصَّفوة الأطهار، حتى دبّت بينهم عقارب، وهم أقارب، فكدّرت صفو الحياة، وعكّرت في الأحبَّاء الصِّلات، وأبطل –في المساجد- الصَّلاة؟.
ما كنت أحسبني أحيا إلى زمن يتنابز فيه الساكنون، من أهل أحياء غرداية أو غيرها، بالطائفية والمذهبية والألقاب!.
وما كنَّا نتوَّقع أن يخرج على الناس بعض الجهلة الحمقى، رافعين شعارات الجاهلية المنتنة، هذا عربي، وهذا ميزابي، هذا مالكي، وهذا إباضي، تالله –إن حدث هذا- إنّنا لفي ظلال مبين!.
إنّ من علامات قيام الساعة في الجزائر، أن ينشأ الجيل الجديد، على لَوْكِ مصطلحات مظلومة، وتشويه مفاهيم من الدين، ومن الوطن، بالضرورة معلومة، بالحديث عن الهوّية الميزابية، وما أسسها، وما ذلك إلاّ لأنّ منظومتنا التربوية الموهومة، قد فشلت في مهمتها، فصارت تعلِّم ولا تربِّي، وتعاكس طموح شعبنا ولا تلبِّي، فساءت بصيرتها، وجاءت بسبب ذلك على يدها بصائر الجيل حولا.
وما اقترفته المنظومة التربوية من آثام، وما جنته على الأجيال اِنعكَس على المنظومة المسجدية، والمنظومة الإعلامية، وبالتالي المنظومة السياسية.
فهل، حقًا، أنّ أسباب الفتنة التي اندلعت في القرارة، وفي غرداية، ومن قبلها في بريان، هي أسباب دينية كما يزعمون؟ كبُرت كلمة تخرج من أفواههم، إنْ يقولون إلاّ كذبا.
إنّ الميزابي؛ هو كلّ من يسكن وادي ميزاب، سواء أكان إباضيًا أو مالكيًا، وإنّ العربي؛ هو كلّ من تكلّم بالعربية، وفي مقدمة ذلك “الميزابيون” الذين هم أفصح من نطق بالضاد، فكيف يجرؤ البعض –جهلا أو كيدًا- بتوزيع مثل هذه الألقاب المجحفة، فيجنون على التاريخ وعلى الواقع؟.
يجب أن يستيقظ وعينا، وأن يصحو عقلنا، فما للفتنة علاقة بأي شيء طائفي أو مذهبي أو ديني، ومن أراد ذلك فهو إمّا جاهل فعلِّموه، أو غافل فنبِّهوه، أو فتَّان ماكر فانبُذوه، نحن لا ننكِر أنّ في مجتمعنا الجزائري بجميع أطيافه مشاكل ذات طابع اجتماعي أو اقتصادي أو ثقافي أو أخلاقي، أو جهة بذاتها، فهناك العنف لدى الشباب في كلّ جهات ومؤسسات الوطن، وهناك الآفات الاجتماعية كاللصوصية، والمخدرات، والفجور، والخمور، ولكنّها تعكس أزمة جيل تسبب فيها الكبار، وحصد نتائجها الصغار.
إنّ سبب الأزمة سياسي، تمثَّل في غياب العدل، وضعف التطبيق الديمقراطي، وتفشِّي التهميش والإقصاء، وضلوع بعض المؤتمنين على الأمن، في الاعتماد على المعالجة الأمنية –وحدها- للقضايا. إنّ هذه الأعراض كلّها قد وجَدت القابلية لدى بعض الصائدين في الماء العكر، من دعاة التعصب المذهبي، والتطرّف السياسي، والغلوّ الحربي أو الديني، فبثوا سمومهم، ونفثوا أحقادهم في العقول الناشئة الفجة، أو صدور الأميين الجهلة، تحت أسماء مختلفة مثل “الهوية الميزابية” أو “حقوق الأقلية” أو “الحقوق الثقافية” وهي كلّها لا تمتُّ إلى واقع السكان بصلة.
إنّنا أعرف الناس بالمنطقة الميزابية، ومن أعرق الناس اتصالا بإخواننا الإباضيين، فما وجدنا لديهم إلاّ استماتة في الدفاع عن الدين وعن الثقافة، منذ الشيخ بيوض، والشيخ أبو اليقظان، والشيخ عدون، إلى الدكتور محمد ناصر، والدكتور صالح خرفي، مرورًا بمفدي زكريا، فأن يجرؤ أحدٌ اليوم على سلب الجانب العربي الإسلامي ثقافيًا ودينيا وحضاريًا عن هؤلاء، فتلك جناية –والله- على التاريخ وعلى الواقع.
فتشوا –إذن- في كلّ ما حدث بين أبناء المنطقة عن العقارب الحزبية والسياسية داخل الوطن وخارجه، فثمَّ ترعرع الألم الدفين! حصنوا الذات ضدّ هذا الغزو الفكري والإيديولوجي الدخيل على المنطقة، فستجدون من ينضح في الرماد لإشعال الفتنة، ومن يؤلمه استقرار الوطن، وتعايش المتساكنين فيه، فيلجأ إلى “التخلاط” عساه يحقق مأربه الخبيث، في هدم البيت على ساكنيه.
وماهو المخرج –إذن- من هذه الفتنة؟ ومن هم المؤهلون لاستئصال أسبابها الحقيقية؟
نحن نعتقد بأنّ الفتنة أشمل من أن نعتمد فيها على الجانب الأمني أو الاقتصادي أو الجانب المادي، بل يجب أن يتعاون على حلِّها أهل الحلّ والعقد، وهم العلماء، والخطباء، والعقلاء، والحكماء، من كلّ الفئات الذين هم مزوّدون بنبل المقاصد والنوايا، ليضمُّوا جهودهم النبيلة إلى جهود السلطات الإدارية والعدلية… فذلك –وحده- هو الحلّ الأسلم والأدوم للقضاء على الداء الأقدم.
إنّنا بذلك يمكن أن نضمن القضاء على أسباب الغليان في ورجلان، وفي القرارة، وفي غرداية، وفي بريان، وفي كلّ مكان!.