وداعًا، يا آخر الأصفياء (2)/أ.د عبد الرزاق قسوم
وهذه جوهرة ثمينة أخرى من جواهر الوطن الجزائري، هذه المرّة، كانت تضيء دروبه الوعرة في الليالي الحالكات؛ إنّها جوهرة التاريخ، ممثلة في عميد المؤرخين الدكتور أبي القاسم سعد الله.
فلئن شُغِل العالم السياسي في الأسبوع الماضي برحيل رائد الزعماء والوطنية نيلسن مانديلا، فإنّ الجزائر، والأمّة الإسلامية قد ودّعت هذا الأسبوع عميد المؤرخين، ورائد الوطنية، أبا القاسم سعد الله.
وما بين الجوهرتين الثمينتين، إحداهما في جنوب إفريقيا، والأخرى في شمال إفريقيا، خيط رقيق، ودقيق، وهو عمق الانتماء، وصدق الابتلاء، وزيادة التضحية والفداء. فمانديلا وسعد الله كلاهما ذاق ألوان الشقاء، وكلّ منهما قهر الأعداء، فكان في زمرة العظماء والأصفياء، غير أنّنا لو وضعنا الرجلين في ميزان التاريخ، ونزلنا عليهما من مقوّماته كلّ الشماريخ لثقلت أكثر، كفة جوهرة الجزائر سعد الله.
وليس من باب العصبية الوطنية، ولا من “الشوفينية” الثقافية، أو العقدية، القول بأنّ مكوّنات العظمة، على أهمية كلّ منهما تختلف عند العظيمين.
فلا أحد يُجادِل في ألوان التضحيات التي قدّمها مانديلا لوطنه، وقاده بها حتى حرّره من ربقة الوحشية العنصرية، وافتكّه من براثن الأقلية الاستيطانية، ليعيده إلى حضنه الطبيعي، حضن الأغلبية الوطنية، الجنوب أفريقية.
ولكن الظروف التي صنعت من سعد الله في الجزائر عظيمًا، لرسم معالم التحرّر لوطنه وللأمّة الإسلامية، تجعلنا نسلّم –حقا- بعبقرية الثاني في اقتحامه أرضًا بورًا، مزروعة بالأشواك، ملبّدة بالأوحال، مثقلة بشتّى أنواع الألغام، فكانت هذه الصعاب هي الملهمة لأبي القاسم سعد الله في وضعه لقوانين التحرّر الواقعي مُنظرًا، لأسباب السقوط، ولمنهجية النهوض والتحرّر، تمامًا كما فعل ابن خلدون في وضع فلسفة النهوض من الانحطاط، وخلخلة الذات المكبّلة بشتّى أنواع الهزيمة الذاتية، كي تستعيد الوعي المفقود، وتحقق النصر الموعود.
ولقد سلك فقيدنا أبو القاسم سعد الله كلّ دروب الوعي، والتوعية، بدءًا بنشر ثقافة الوعي، وانتهاءً بامتطاء سبل أنواع النضال، لتحرير الفكر الضامن لتحرير البدن والوطن. فإضافة إلى التضحية والابتلاء التي يشترك فيها سعد الله مع مانديلا، والتي فرضتها طبيعة النضال، وغطرسة الرجل الأبيض في شمال وجنوب إفريقيا، ينفرد سعد الله؛ بالعمق الثقافي، والتنوّع اللغوي، والتعدد المنهجي، وهو ما أضفى على نضاله الفكري اِلتصاقًا أكثر بواقع النضال الوطني، من حيث تعبيد سبل المناضلين، ورسم طرق الخلاص للسائرين في بلاده، وفي أجزاء أمته، المتلمسين للخلاص من كلّ أنواع الظلم، والاستبداد والطغيان.
لذلك يحقّ لنا القول بأنّ قطعة عزيزة من الوطن الجزائري، وجدارا عاليا من البناء الفكري للأمّة العربية والإسلامية قد سقط، فأحدث هذا الدّوي المريع في الضلوع ولدى الجموع. كما يحقّ لنا القول بأنّ رثاء سعد الله، وتأبينه لن تفيه الكلمات والعِبارات، الممزوجة بالعَبَرات والآهات…ففي إنتاجه الأدبي، وفي إبداعه التاريخي ما يفي، وما يغني عن هذا الرثاء والبكاء.
فهيا، انهضوا، بعد أن دفنتم أبا القاسم سعد الله، وابحثوا في إنتاجه وإبداعه بعد جمعه، عن فلسفة التحرير والنهوض في ما وضع من منهج، واتخذوا من هذه النظرية سلمًا نرتقي به للخروج من كلّ التخلف الذي يكبلنا، والخنوع والخضوع الذي يستبّد بفكرنا وعقلنا.
لتكن معالم الحركة الوطنية التي رسمها وآراؤه وأبحاثه، وتاريخه الثقافي الجزائري معراجًا، نَعْرِجُ به من عالم الطين، والتراب إلى عالم الجواهر والتبر في الانتماء والانتساب.
إنّ في موت سعد الله حياة لنا، ونهوض من كبوتنا. ففي موت العظماء حياة لشعوبهم وأممهم، فماذا عسانا نستلهم من موت أبي القاسم سعد الله؟ لقد جاد سعد الله بموته بمجموعة من الدروس والمواعظ، لعلّ أبرزها فيما يمكن إجماله على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:
1- صدق الانتماء الحضاري لمكوّنات الوطن والأمّة بوصفها المقوّم الأساسي لتحقيق المقاصد العليا في البناء، والنهوض والتحرّر على قاعدة الوحدة؛ وحدة الصف ووحدة الهدف.
2- اتخاذ العلم، بجميع تخصصاته، وسيلة لتحقيق الوعي بالذات، والشعور بالكينونة ورسم الخطط والمناهج، بالعقل المستنير، المتحرّر من “الخوف من التاريخ” والمتسّلح بالعلم، والمستهين بشتى أنواع الظلم، وكما يقول الإمام عبد الحميد بن باديس: فإنّ الأمم تحيا بشيئين اثنين لا ثالث لهما؛ هما قوّة العلم وقوّة الظلم.
3- التّعفف، والزهد فيما في أيدي الناس، حكامًا أو محكومين، فليس كالعفة في الدنيا فضيلة، تعلي من قامة المثقف، وترفع قيمته، وتمنحه المهابة فيما يقدّم للناس من دروس أو نظريات.
4- منهجية التدقيق والتحقيق في صياغة التاريخ، وإصدار الأحكام بشأنه، ولا عبرة بمن يتجه إليه هذا التاريخ أو يصدر عنه، فالحقيقة التاريخية إنّما هي من أيّ حاكم أو زعيم. وكما علّمنا سعد الله فإنّ الجزائريين يصنعون التاريخ ولكنهم لا يكتبونه.
هذه إذن- يا قارئي العزيز، عِبَرُ وداع لأحد أصفيائنا، وهو أبو القاسم سعد الله، وبدل أن نؤبنه بالدموع، والشموع، وعوض أن نرثيه بالكلمات والعَبَرات، فلنخلد ذكراه، ومعالمه، ومنهجه بالمؤسسات والجامعات…فلتحمل هذه المباني التي ناضل سعد الله من أجل إحيائها اسمه ورسمه كي تذكرنا دومًا بتضحياته ومجهوداته، وإنّ لنا في أبي القاسم سعد الله أسوة حسنة.