هموم ومساهمات ثقافية في مسار الدكتور أبو القاسم سعد الله/أ. بشير بلاح*
المرحوم الدكتور أبو القاسم سعد الله من كبار المثقفين الجزائريين الذين حملوا هموم أمتهم ومجتمعهم، متسلّحين بالأصالة التي استمدّوها من الثقافة العربية الإسلامية؛ والفعالية التي اقتبسوها من المناهج الغربية الحديثة المُحْكمة، في ظل ظروف مثبّطة ومعاكسة، لم تمنعهم من الإبداع، والمساهمة في تنوير المجتمع والأمة وحل مشكلاتهما، وخدمة العلم والثقافة، وترقية الإنسانية.
طموح علمي ونحت في الصخر
يعتبر ارتفاع صرحِ المرحوم الدكتور سعد الله (المولود بقمار عام 1927) الثقافي المهيب في صلب البيئة الجزائرية تصديقًا لآراء التيار الفردي من علم النفس الثقافي، الذي يذهب إلى أنَّ الكائن البشري نظامٌ متوازن تعمل آليات التوازن الداخلي لديه على تفتيت الثقافة واستيعابها وصناعتها، وأن الضغوط الاجتماعية السلبية لا تؤثر إلا على الأفراد الذين يمكّنونها من ذلك بضعفهم أو لا مبالاتهم، بخلاف الأقوياء الذين يغالبونها ويصمدون لها، ويبدعون داخل مجتمعات يسودها الاغتراب والجهل، ضاربين على ذلك مثَل أن المواقف الاجتماعية تقدّم الحبوب إلى مطحنة الفرد، لا أنها المطحنة التي تنتج عمله؛ وأن الفرد مبدعٌ ثقافيٌّ يضيف تجربته الفريدة إلى مجموع الأنماط والتوقعات الثقافية الجماعية، فتتغير الثقافة باستمرار من خلال هذا التفاعل بين الأفراد، وبينهم وبين الثقافة.
من أبلغ أمثلة الطموح العلمي التي عزّ نظيرها لدى المرحوم: تجاوزه لما سمّاه “النكبة الثقافية” (مقال منشور في جريدة الشعب، عدد 15 سبتمبر 1988) التي ألمّت به عام 1988، ممثّلة في ضياع محفظته (في مطار هيثرو-لندن) المشتملة على الفصول الثلاثة الأخيرة من الجزء الأول من الحركة الوطنية (1830-1900)، أي قسمَه الثاني (مرحلة 1860-1900)، وبطاقات ذلك الجزء جميعا، وقسم هام من الجزء الثالث من تاريخ الجزائر الثقافي، وجميع بطاقات جزأيه 3 و 4. فرغم أنها زعزعته، إلا أنها لم تحبط مشروعه العلمي الذي اطّردَ بإخراج الجزء العاشر من التاريخ الثقافي سنة 2007، ثم جزأين آخرين من ذات التاريخ يؤرخان لما قبل 1500 سيصدران قريبا مع أعمال أخرى على الراجح.
إحياء التراث وإرساء قواعد مدرسة تاريخية
لطالما تألم الراحل لواقع الثقافة العربية الإسلامية المأساوي في الجزائر (والعالم الإسلامي عامة) الذي تواطأ عليه عاملان: تفريط المجتمع، وخذلان النخب العصرية الحاكمة.
لذلك دعا الراحل إلى إنزال الثقافة العربية الإسلامية المنزلة التي تستحقُّها؛ وعضَدها بجهوده الملموسة الواعية، باستفراغ الجهد في إحياء تراثها الثقافي الإيجابي؛ وتنشيط الساحة الثقافية؛ وصيانة الذاكرة الجماعية للمجتمع الجزائري (والأمة بشكل عام) بملء الفراغ في مجال التاريخ الذي كان حكرًا على إنتاج المدرسة الاستعمارية.
1. إحياء التراث
من أبرز الأمثلة على مساهمة الراحل في بعث رموز وذخائر التراث الجزائري: معلَمة “تاريخ الجزائر الثقافي” (1981-1998) بأجزائها التسعة، ثم جزئها العاشر (2007)، التي تعكس ملكةً أدبية راسخة وقدرة على الاستقصاء والتقميش فائقة ومصابرة على البحث نادرة، وسدّت ثغرة كبيرة في هذا المجال. ولا غرو؛ فقد كتب عنه الشيخ البشير الإبراهيمي عام 1960 بأنه “مشغوف إلى حدّ الافتتان بالبحث عن الآثار الأدبية والعلمية لعلماء الجزائر في جميع العصور” (أبو القاسم سعد الله، محمد العيد آل خليفة (دار المعارف بمصر، 1961)، ص 3).
إلى جانب أعماله عن أمثال “محمد العيد آل خليفة رائد الشعر الجزائري في العصر الحديث” (1961)، و”القاضي الأديب: الشاذلي القسنطيني” (1974)، و”رائد التجديد الإسلامي: ابن العنابي” (1977)، و”الطبيب الرحالة: ابن حمادوش الجزائري” (1982)، و”شيخ الإسلام عبد الكريم الفكّون” (1986)، وتحقيقاته لكتابات أعلام الجزائر كـ”رحلة ابن حمادوش” (1983)، و”حكاية العشاق” (1983)، و”منشور الهداية” للفكون (1987)، و”رسالة الغريب إلى الحبيب”، للبجائي (1992)، و”تاريخ العدواني”، وغيرها. وفي هذا السياق أيضا تأكيدٌ على الوحدة الثقافية للشعب الجزائري، ككتابته عن كتاب “الحوض” لمحمد بن علي بن إبراهيم السوسي في الفقه المكتوب بالأمازيغية بحروف عربية، وعن “الأُفعول” في الحميرية والبربرية (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر، (دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1990)، ج 4)، وغير ذلك.
2. إرساء قواعد المدرسة التاريخية الجزائرية
ساهم الراحل في بناء صرح التاريخ الوطني، بتأسيس قاعدتين:
– قاعدة تاريخ الجزائر السياسي والعسكري المعاصر: حيث يرى أن العهد الاستعماري وتتبع مسيرة الصراع بين الجزائريين والفرنسيين خلاله لم يدرس بعدُ باستيعاب، ومن هنا طموحه إلى تقديم أرضية يمكن للباحثين اللاّحقين الاستفادة منها والانطلاق من حيث توقف هو- كما قال عام 1989- رغم اعترافه مرارا بأنه لم يحقق كل ما عزم على إنجازه في ذلك المشروع.
– قاعدة أوسع لتاريخ الجزائر الثقافي، قرُبت أن تكون قصة حضارتها الحديثة والمعاصرة، خاصة أنه صرّح في الجزء الأول من “تاريخ الجزائر الثقافي”-وهو بيت القصيد- بالقول عام 1979: “كان هدفي من البحث إنتاج عمل يكشف عن مساهمة الجزائر في الثقافة العربية الإسلامية والإنسانية عبر العصور”، لولا أنه تجنّب تتويجها بحوصلة فلسفية تفسّر طابع الثقافة الجزائرية البياني- الوصفي- الإستِعادي، وتحدّد التيارات العميقة التي صاغت أفكارنا وحكمت أعمالنا وصنعت مصائرنا، لنقدها وتقويمها واستثمارها في معتركات التدافع والتداول والتجديد، ربما لأنه تحاشى– كما لاحظ الدكتور ناصر الدين سعيدوني- الوقوع في محاذير إخضاع الأحداث لنظرة خاصة قد تقلل من قيمة عمله وتثير حفيظة المخالفين، أو لأنه من المؤرخين الذين يعتقدون –على غرار المؤرخين البريطانيين -بأن معنى التاريخ ظاهر وواضح بذاته، فلا يكون موضوعًا استنتاجيّا؟ تلك “الاستنتاجية” التي يعتبرها بعض أعلام المؤرخين إكسير الحياة بالنسبة إلى التاريخ.
– فضلا عن الطموح إلى المساهمة في تصحيح أخطاء التاريخ، كما في قوله “هناك مواقف وتفاسير كثيرة في تاريخ المغرب العربي تحتاج إلى تصحيح وإعادة نظر”، يذكر منها مقاومة البربر “المزعومة” للعرب، وطبيعة وأعمال وتأثيرات بني هلال وبني سُليْم، والفتح العثماني مما يُعرف بذهابه فيها عكس مذاهب المؤرخين الفرنسيين ومن سايرهم.
– ناهيك عن التطلّع إلى تقويم وإثراء الحياة الثقافية، حيث صرّح في كافة أعماله بغيرته على اللغة العربية وحرصه على خدمتها وإثرائها، ولا غرو، فتكوينه الأدبي والعلمي- التاريخي وفّرا له كافة المبررات والإمكانات.
كــــــــان الراحل سعد الله مثقفا أصيلا، أدّى دورًا ظاهرا في بلورة وإنعاش ورسم توجّهات الثقافة الجزائرية المعاصرة، خاصة في قضايا تأصيل التاريخ والتعريب والتربية، وقيم المجتمع المدني أيضا. كما كان عالِما نذر نفسه للحقيقة كما بلّغه تخصّصه واجتهاده، رغم أعاصير ومناورات أرباب المصالح الضيقة. مع حرصٍ على صرامة المنهج، واعتدالٍ وحذرٍ في المواقف العامة، وميلٍ إلى التآلف والتوافق. وهو أيضا ذاكرة جيل حلُمَ بالنهضة، لكنّ الذي تراءى له كذلك كان حركةَ وعيٍ وتعبئةٍ ودفاع عن الذات أمام تحديات الانحلال الداخلي والهيمنة الخارجية، أكثر منه نهضةً متكاملة تدرك الحاجات، وتتوفر لها الخبرات والقدرات. ويبدو أنّ النهضة المنشودة مَنوطة ابتداءً باستكمال الوعي التاريخي (المحقِّق لإدراك مقوّمات الوجود التاريخي والتمسّك بها) لدى نخبة المجتمع والأمة وجماهيرها على حدّ سواء، لتفعيل طاقاتها وحفزها إلى البناء والتجديد كما أسلفنا، ولطالما نبّه إلى ذلك الدكتور سعد الله وكافح من أجله، وإن لم ينظّر له بشكل مستقل. فهل تتضافر الجهود في هذه السبيل؟.
* باحث جامعي