مصرف السلام الجزائر .. خدمات بنكية أصيلة
تحاليل وآراء

رحيل الرجل الذي تطيب بعد الموت أخباره!/الأستاذ: عبد الحميد عبدوس

SAADALLAH6لا شك أنّ موت العلماء رزية كبرى، وخطب جلل، وفجيعة لا تُنسى، لأنّ حاجة الناس إلى العلم والعلماء لا تزول ولا تحول بتغيّر الأزمان، وتعاقب الأجيال في شتّى الأوطان،
لقد قال النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- في الحديث المتفق عليه: “إنّ الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من صدور الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يترك عالمًا اتخّذ الناس رؤوسًا جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلّوا وأضّلوا”. والعلماء ورثة الأنبياء
ولذلك قال الحسن البصري –رحمه الله-: “موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسّدها شيء ما اختلف الليل والنهار”.
حقًا لقد استشعرت فداحة المصيبة عندما تلقيت نعي العلامة شيخ المؤرخين الجزائريين المعاصرين، الأستاذ الدكتور أبو القاسم سعد الله الذي التحق بالرفيق الأعلى يوم السبت الماضي عن عمر ناهز 83 سنة، قضى معظمها في الدراسة، والتدريس، والبحث، والتنقيب، والتأليف، والتحقيق، والكتابة في الصحف والمجلات الوطنية، والعربية، والمشاركة في الملتقيات والندوات الفكرية والعلمية والأدبية في الجزائر ومختلف قارات العالم.
لقد كان صاحب موسوعة “تاريخ الجزائر الثقافي” قدوة في علمه وسلوكه، أعطى لوطنه ولشعبه ولأمته وللغة العربية، ولدينه الإسلامي، تراثًا ثقافيًا تعجز عن تقدير قيمته الكلمات، وتثمين رصيده أبلغ العبارات.
ذلك ما شعرت به حقًا خلال مشاركتي في ندوة الإذاعة الدولية التي جمعتني بالمجاهد الدبلوماسي المثقف السيد صالح بن قبي، والصديق المؤرخ الباحث الأستاذ الدكتور محمد الأمين بلغيث، والتي أذيعت يوم الاثنين 16 ديسمبر، ولم تكن تلك الساعة من الزمن المخصصة للندوة كافية لأن تجعل كلّ واحد منا يدلي بما يحتفظ به من امتنان وتقدير وعرفان لنجم المدرسة التاريخية الجزائرية المعاصرة، وقطبها ومحرّك الهمم لإقامة صرحها على قواعد البحث الموضوعي، والأصالة الحضارية.
كنت أعرف الدكتور أبا القاسم سعد الله من أواسط السبعينيات مؤرخًا وشاعرًا وناقدًا من خلال القراءة والإطلاع والسماع، ثم توثقت صلتي به في أواسط الثمانينيات عندما كان يشرّفني دائمًا بحضوره كلّما دعوته للمشاركة في الحصة الإذاعية التي كنت أعدّها وأقدّمها تحت عنوان: “من قضايا الثقافة” والتي كانت تحظى بمتابعة واسعة من جمهور المثقفين في الجزائر وحتى في فرنسا، وكان الدكتور سعد الله يتميّز دائمًا بثقافته الراقية، والمتنوّعة، وعلمه الواسع، وخلقه الرفيع، ولم يحدث أن تخلّف قط عن موعده بعد أن يعطي موافقته على الحضور.
ولا أعتقد أنني أفشي سرًا إذا قلت أنّ أخلاق النميمة والاغتياب والحسد والتنافس بشكل أو بآخر تنتشر في أوساط المثقفين، وتكاد تكون حاضرة في جل اللقاءات ومختلف الجلسات، ولكنّني أشهد بأنّ الآراء كانت شبه متفقة على الثناء على سمعة الدكتور سعد الله، وتقدير مكانته العلمية واستقامته الأخلاقية، وهذا ليس بالشيء الهيّن في وسط يموج بالصراعات وصناعة الشائعات.
وعندما ينظر المرء إلى آلاف الطلبة والطالبات الذين تخرّجوا على يد الدكتور سعد الله وأصبحوا مراجع في البحث والتأليف في التاريخ والتدريس والتأطير والتسيير الأكاديمي، وإلى عشرات الكتب التي أصدرها، ونفائس المخطوطات التي حققها، وجواهر المؤلفات التي ترجمها، يتأكد بأنّ هذا العالم الأصيل الذي لم يبخل بعلمه ولم يدخر جهده لنشر العلم والمعرفة بين طلبته وعند قرائه مازال حيًّا، وسيبقى معلمًا من معالم الثقافة الجزائرية والعربية، شامخًا في موكب عظماء التاريخ الذين تبقى معانيهم الحيّة، كما قال العلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي –رحمه الله- في ذكرى وفاة رفيق دربه إمام النهضة الجزائرية ومؤسس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين؛ عبد الحميد بن باديس – عليه الرحمة والرضوان-: “يموت العظماء فلا يندثر منهم إلا العنصر الترابي الذي يرجع إلى أصله، وتبقى معانيهم الحيّة في الأرض، قوّة تحرِّك، ورابطة تجمع، ونورًا يهدي، وعطرًا يُنعِش، وهذا هو معنى العظمة، وهذا هو معنى كون العظمة خلودًا، فإنّ كلّ ما يخلف العظماء من ميراث، هو أعمال يحتذي بها من بعدهم، وأفكار يهتدون بها في الحياة، وآثارًا مشهودة ينتفعون بها، وأمجادًا يعتزون بها ويفتخرون”.رحم الله العلامة أبا القاسم سعد الله الذي طابت في الدنيا عشرته وسمعته وتطيب بعد الموت أخباره.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى