القضايا الأدبية في كتابات أبي القاسم سعد الله/د.وليد بوعديلة*
يقترب كتابه الهام “تجارب في الأدب والرحلة ” من بعض القضايا الأدبية والتاريخية ويقدم رحلاته لبعض الأماكن الجزائرية والعربية ( المغرب والجزيرة العربية و خنقة سيدي ناجي) وكذلك رحلات غيره من الشخصيات، كما يتضمن الكتاب بعض الحوارات التي أنجزت مع أبي القاسم سعد الله. وقد نشرته المؤسسة الوطنية للكتاب سنة 1983.
أغلب مقالات الكتاب تعود إلى سنوات الخمسينات والستينات، وفيها الكثير من ملامح التفكير النقدي الأدبي المتميز، حيث يمكن أن نتتبع عبرها تاريخ الممارسة النقدية الجزائرية. وستحاول هذه السطور الاقتراب من بعض القضايا النقدية وكشف مواقف المرحوم منها.
الأدب الجزائري وأسئلته:
نجده يحرص على تفاعل النص الأدبي مع السياق السياسي الاجتماعي الذي يتحرك فيه، يقول: “إن الحاجة واضحة وملحة إلى تحديد وتقييم مفاهيمنا الأدبية على ضوء تطورنا السياسي والاقتصادي بعد الاستقلال، لكي نعرف الفرق بين ماضينا وحاضرنا الأدبي ومدى استجابة إنتاجنا الشعري والنثري إلى التزامات العصر”(ص31).
فهي رؤية تحيل على مقاربة سويولوجية تحتفي بتفاعل النص مع البعد الاجتماعي السياسي، كما تبين أهمية النقد الأدبي في تطوير النصوص وتقييمها وربطها بقضايا الإنسان، كما أن انجاز عملية التحليل والتأويل للنصوص يضعها في سياقها التاريخي الأدبي، ويكشف اختلافها أو اتفاقها مع النصوص السابقة عنها.
وينجز الأستاذ أبو القاسم وقفة متميزة عند هوية الأدب الجزائري وإشكالية الثنائية اللغوية في التعبير الأدبي الجزائري، يقول معرفا الأدب الجزائري”:إنه الإنتاج النثري والشعري الفني الذي كتبه الجزائريون بلغتهم القومية، وعلى هذا الأساس فإن كل أدب انتسب إلى الجزائر دون أن يتوفر له هذا الشرط، يعتبر أدبا شاذا غريبا أو مولودا غير طبيعي، يمثل مأساة صاحبه وليس حضارة أمته”(ص32)، هي فكرة قدمها سعد الله في سنة 1968، ولسنا ندري هل تراجع عنها فيما بعد، و قد يسانده فيها البعض ويخالفه فيها البعض الآخر، بخاصة لصراحتها وجرأتها في تناول إشكالية مهمة جدا وما تزال مطروحة إلى يومنا هذا .
ونحن نختلف معه هنا، فماذا نعتبر روايات محمد ديب ومولود فرعون ؟ وماذا عن كاتب ياسين ومالك حداد وغيرهما من الذين كتبوا باللسان الفرنسي؟ وماذا لو قرأنا أدباً جزائرياً بلسان عربي وقيمه أوروبية أو يقترح هوية جزائرية منسلخة عن القيم الإسلامية ؟ بل و متمردة على التاريخ الجزائري ورافضة للقيم الاجتماعية التقليدية؟ ثم لماذا ننجز رؤية دينية عن الأدب ؟وماذا عن الأدب باللغة الامازيغية؟….
الأكيد أنها إشكالية كبيرة ومتعددة الجوانب، ولأبي القاسم شرف التعبير عن رأيه بصراحة معرفية، ونرجو لمن لديه فكرة عن مواقف لاحقة لأبي القاسم في هذه المسألة –في كتبه أو حواراته- أن يقدمها للاستفادة منها.
أما بالنسبة لتيارات الأدب الجزائري إلى غاية نهاية الستينات فهي –حسبه- محصورة في التيار التقليدي والتيار المتطور، وموضوعاته” سياسية اجتماعية مرتبطة بالتطور البنائي للبلاد، وقلما كانت عاطفية ذاتية تعبر عن إحساس داخلي للأديب”(ص32). وهو في عمومه لم يعرف أصوات الخروج عن التراث أو التمرد الجمالي والفكري عليه، وقد أشار سعد الله إلى ما أسماه “غياب تمردات أو انتفاضات خلاقة كما يحدث في الآداب العالمية”، كما لا يمتلك الأديب الجزائري -في تلك الفترة و ما سبقها- مواقف “مستقلة هجومية خارجة عن القانون”، وهي تعبيرات فكرية تعبر عن تصور نقدي تجديدي ومغامر ، أو لنقل عن فكر لا يتوقف عند القواعد الجاهزة والسائدة، و لو استمر سعد الله بشخصيته النقدية لكان ذا شان نقدي كبير في التعبير عن قضايا خرق المتداول والمألوف والثابت بكل تجلياته الأدبية أو الفكرية أو السياسية، وقد عرف عنه عدم التملق وعدم النفاق في الحياة الشخصية أو الكتابة التاريخية.
وقد أكد هذه الرؤية المغامرة: “أن التمرد ضرورة للخلق الفني، ونعتقد أنه لكي يكون الأدب العربي أدباً خلاقاً، يجب أن يكون أصحابه مستقلين في مواقفهم وأحكامهم ، إن أسوأ ما يتعرض له الأديب هو التوجيه من الأعلى واحتكار أفكاره من السلطة،أيا كان نوعها،كيف نخلق في الفكر إذا لم نتمرد؟…”(ص33)، من يقرأ هذه الأفكار في زمن التعددية والديمقراطية الآن يراها تقدمية في زمنها ، وهي أفكار ارتفعت في زمن الأحادية والقبضة الأيديولوجية الاشتراكية و ما صنعته من أدب اشتراكي واقعي ومشهد ثقافي أحادي الرؤية الفكرية.
ويدرس أبو القاسم حياة وشعر محمد العيد آل خليفة، ويعتبره كبير شعراء الجزائر وأميرهم، ويرجع أسباب تفوقه على غيره إلى أسباب هي:
1-إنه جاء بعد أن نضج الشعر العربي في المشرق وكثرت مدارسه ومذاهبه وأصابه التجديد على يد شعراء المهجر والمتأثرين بالغرب.
2- التجارب الشعرية لمحمد العيد مستوحاة من صميم الحياة الشعبية و ما فيها من صراع وهدوء وشقاء وأمل.
3-جاء بعد ركود في الحياة الفكرية والأدبية بسبب الاستعمار
مواقف من نصوص بعض الأدباء
ويتوقف الكاتب عند كتاب “مع حمار الحكيم” لرضا حوحو، باحثاً في بعض خصائصه اللغوية و الموضوعاتية، وكاشفاً تفاعل رضا حوحو في بعض أفكاره مع صادق الرافعي و المازني والعقاد، مما يدل على التنوع الثقافي الذي يميز الناقد(سعد الله) مما أهله لمعرفة التناصات والحوارات الفكرية في نص المبدع(حوحو).
كما درس نصوصا أدبية أخرى كثيرة ، ومنها مسرحية مصرع الطغاة لعبد الله الركيبي التي نشرها بتونس سنة 1959، و قد نشر كاتبنا عنها مقالاً في سنة1967 في مجلة المجاهد الثقافي، ولخص أفكارها الثورية ومسألة التضحية الوطنية والموقف الاستعماري من الثورة، كما حلل رمزيات الشخصيات والمواقف.
واعتبر المسرحية متضمنة لظواهر نفسية وفكرية تفيد كل مهتم بدراسة الجزائرية عشية الثورة و خصوصيات المجتمع وملامحه في ذلك الزمن، ومن ثمة فهو يعتبر النص الأدبي وثيقة تاريخية عن المرحلة التي ولد فيها،وهو شأن الباحث المؤرخ، فيلتفت سعد الله الأديب والناقد إلى بعد آخر في شخصه هو سعد الله المؤرخ، وهو ما سيفيده كثيرا (ويفيد الجزائر كذلك) لتأليف موسوعة تاريخ الجزائر الثقافي، حيث يلتقي التاريخي بالثقافي، ويصبح كل أستاذ مدرس لمادة تاريخ الجزائر الثقافي ملزما باعتماد كتاب سعد الله.
ونحن في زمن تخصص التخصص في الجامعة الجزائرية نجد صعوبة كبير ة في إيجاد أستاذ يجمع التكوين الأدبي والتاريخي والفكري في شخصه، و هو ما صادفته شخصيا أثناء البحث عن أستاذ لهذه المادة في الماستر الذي أنجزته(ماستر الأدب الجزائري) إلى أن أنقذ الباحث والمفكر المحترم حميد لعدايسية الموقف ودرس تاريخ الجزائر الثقافي لطلبتي في الجامعة.
ونقرأ في كتاب “تجارب في الأدب و الرحلة” لأبي القاسم مقالا عن مسرحية التراب لأبي العيد دودو(1966) ، وهو عبار ة عن رسالة إلى دودو يعبر فيها عن رأيه الذاتي في المسرحية، معلنا إنه قد انصرف عن الأدب إلى التاريخ، وبأن الأحكام النقدية الجيدة تحتاج إلى تتبع قضايا النقد ومذاهبه للوصول إلى الموضوعية، ومع هذا نقرأ تحليلاً محترماً للحوار والشخصيات والمشاهد.
وفي سياق آخر يبحث في قصص” بحيرة الزيتون” لدودو في مقال نشره بجريدة الشعب سنة 1968، وهنا يذكر لنا مسألة هامة، يقول” طالما قلت لدودو أنني قد انسحبت من نادي الأدب ودخلت أسرة التاريخ ولكنه كان يرفض ذلك أو لا يصدقه، إنني متأكد أن القصة من أخص فنون الأدب وأصعبها على التقييم والنقد الموضوعي، وهي تحتاج إلى ناقد متخصص ومتجرد”(ص136)،
وهنا نلتفت إلى قضية هامة في تاريخنا الأدبي، فبالتأكيد أن دودو كان عارفا بقيمة سعد الله النقدية والذوقية، كما أنه عارف بأن سعد الله لا يجامل في أحكامه وينطلق من رؤية حكيمة مؤسسة على معرفة أدبية وجمالية، لذلك قد يكون طلب مرارا منه عدم الانصراف عن النقد الأدبي وقد تكون هناك مراسلات بينهما في هذا الشأن .
و الملاحظ أن سعد الله يقف كثيرا عند الأبعاد النفسية والاجتماعية والثقافية للقصص، واستطاع كشف المرجعيات الفنية والثقافية لدودو وتنوع أدواته التعبيرية و ميولاته الفكرية تحت تأثير القراءات الثقافية المتعددة.
وقد تضمنت الحوارات التي أجريت مع سعد الله الكثير من أفكاره الأدبية والنقدية، ففي حوار في مجلة القبس )مارس1969) تحدث عن الأدب الجزائري المكتوب بالفرنسة وهو عنده أدب يخضع لتأثيرات ثقافية فرنسية والتفكير الفرنسي غالب عليه، كما يتحدث عن مفهوم الالتزام في الأدب ويعرفه قائلا” إنه طريقة أداء أخلاقية يلزم بها الكاتب نفسه اقتناعا بها دون تأثير خارجي… ويمكن لكاتب ما إن يلتزم بموقف معين في ظرف معين ثم يلتزم بموقف آخر في ظرف آخر… أما الالتزام المقيد بحزب ما أو الولاء لشخص ما أو بخدمة مذهب ما دون حرية اقتناع شخصي، فهذا في نظري إلزام وليس التزاما، والإلزام اضطهاد وكبت لطاقة الإنسان الخيرة المنتجة”(ص177).
وبالنسبة لقصية موقف الأديب من التراث والحداثة فقد قدم موقفه في حوار مع أبي القاسم بن عبد الله ونشر في مجلة الجيش(فيفري1972)، حيث يقول:” الأديب العربي المعاصر لا يستطيع ان يتخلى عن مقوماته الروحية والفكرية، وهو في نفس الوقت لا يستطيع أن يبقى بمعزل عن التطورات العالمية المعاصرة”(ص198)
الخاتمة:
هي بعض القضايا التي تناولها الدكتور الرحل أبو القاسم سعد الله في كتابه، وهي تنقل أفكاره القيمة حول الأدب الجزائري والعربي،و تجسد نظرته السوسيولوجية والثقافية للنص الأدبي، برؤية فيها الموضوعية والجرأة في تقديم التحليل النقدي، ومقالاته وحواراته الواردة في الكتاب تعبر عن مرحلة ما بعد الاستقلال و مميزاتها الأدبية والفكرية، هو كتاب مهم نتمنى إعادة طبعه لما فيه من مقالات نقدية أدبية هامة وكذلك رسائل ورحلات ومقاربات تاريخية.
*أستاذ الأدب العربي – جامعة سكيكدة