
كنت على موعد مع أحمد، ابن المرحوم، لزيارة والده يوم السبت 14 نوفمبر 13 بعد أن نقل من مصلحة العناية المركزة، بمستشفى عين النعجة، إلى قسم الأمراض الداخلية بنفس المستشفى، ولكن أحمد عاجلني بمكالمة هاتفية ليخبرني أن والده قد توفي، فأحسست بنوع من توقف التفكير والشلل في الإحساس. وعندما وصلت المستشفى وجدت أنه نقل إلى المصلحة بالتغسيل والتكفين، وفي المساء حملته السيارة الخاصة بالمستشفى إلى المنزل، حيث كان ينتظره جمع كبير من طلبته وزملائه وأصدقائه ورؤساء الجامعات، وغيرهم كثير، ممن بلغهم خبر الوفاة، وفي نفس الأمسية قررت عائلته نقل جثمان المرحوم إلى قمار، مسقط رأسه، لدفنه في نفس المقبرة أين يوجد ضريح والده.
وهكذا قرر بعض الأصدقاء ممن تيسر الأمر، أن ينتقلوا هم أيضا إلى قمار لحضور جنازة هذا العظيم الذي رحل عن هذه الدنيا الفانية، ملتحقا بالدار الأخرى، التي هي خير وأبقى.
ولضيق الوقت وسرعة القرار، فقد تكفل كل شخص، أو مجموعة من الأشخاص الذين قرروا حضور الجنازة، بتنظيم تنقلهم وتهيئة وسائل تنقلهم، وتوقيتها،، إلخ. أما أنا فقد كان من حسن حظي أن يتقرر سفري برا بصحبة الصديق الهادي الحسني.
في الطريق إلى قمار
انطلقنا من أمام منزل الأستاذ الهادي الحسني بحي أولاد يعيش بالبليدة، على الساعة الثالثة والنصف فجرا، مؤملين أن نصل إلى قمار في ظرف تسع أو عشر ساعات، كما قال لنا بعض مرتادي هذا الطريق، وبعد ثلاث ساعات من السير – نقترب من مدينة الجلفة متوجهين إلى الجنوب الغربي، فحوّلنا الاتجاه إلى الشرق ومررنا بالقرب من عين الإبل وعين الريش والهامل وأخيرا بوسعادة، المدينة التي كانت بالنسبة إلينا البوصلة؛ ومن هذه المدينة رجعنا إلى الاتجاه الصحيح وبدأت السيارة تنهب الأرض نهبا، وكأن بها، مثلنا، شوقا إلى مدينة قمار، التي وصلناها حوالي الساعة الثانية والنصف زوالا.
استقبلنا إخوة المرحوم: الدكاترة الأربعة (إبراهيم وعلي وإسماعيل وخالد بوبكر) وأفسحوا لنا في المجلس، الذي كان غاصا بالجالسين، القادمين من أنحاء وادي سوف وبعض جهات الوطن الأخرى، ممن بلغهم خبر نقل المرحوم إلى قمار، وأخبرني الإخوة أن البرنامج المسطر لم يتغير، وأن الدفن سيكون بعد صلاة العصر.
جنازة تماثل جنازة ابن باديس
انطلقت الجنازة من منزل المرحوم، محمولة على الأعناق – عملا بوصيته – ومتوجهة إلى المقبرة التي تضم أيضا رفاة آل سعد الله بمن فيهم والده، رحمهم الله جميعا؛ وكنت أرى وأنا في مسيرة المشيعين، المواطنين ينضمون شيئا فشيئا إلى الجنازة حتى امتلأت بهم الطرقات وغصت الشوارع، ثم توقفت في ساحة واسعة بجانب المقبرة يسمونها ساحة السوق، حيث أقيمت صلاة الجنازة على المرحوم، ثم توجهت المسيرة إلى المقبرة وتوقفت عند القبر الذي كان قد هيئ من قبل، بجانب قبر والده.
لم ينقطع هتاف الجماهير – لدى عملية الدفن – بالتكبير والتهليل، فتمثلت جنازة ابن باديس، التي لم أحضرها، ولكني كنت قد شاهدت بعض الصور الشمسية التي تبين نوعية المودعين وضخامة عددهم، وهذا ما جعلني أتمثل في خيالي جنازة ابن باديس، في التوديع الذي خصه به سكان قسنطينة وضواحيها، وفي العفوية التي سارت بها مسيرة المشيعين.
وقد ألقى الأستاذ عبد الرزاق قسوم كلمة تأبينية طيبة، أحسب أن المرحوم كان راضيا عنها، ثم تلاه مدير الشؤون الدينية بالوادي فألقى هو أيضا كلمة التأبين التي أرسل بها الدكتور بوعبد الله غلام الله، وزير الشؤون الدينية. بعد ذلك تحولت الجموع إلى تقديم التعازي لأقرباء المرحوم الذين كانوا حاضرين، وقد كان من بين المعزين السيد والي الولاية ومجموعة من المسؤولين المرافقين له.
وفي صبيحة اليوم الموالي رافقنا الدكتور إسماعيل سعد الله في زيارة بعض المعالم في قمار: مدرسة جمعية العلماء (تحولت الآن إلى مدرسة لتعليم القرآن الكريم)، بإشراف سيدة كريمة من أقارب عائلة سعد الله، حسب ما ذكرت لنا هي نفسها. كما زرنا منزل المرحوم، والذي وردت الإشارة إليه في مذكراته (مسار قلم)، ورأيت رأي العين النخلتين اللتين كان يحدثني عنهما، بل وكان – في إحدى السنوات الماضية – أهداني كمية من (دقلة نور) مفتخرا أنها أول إنتاج للنخلتين، فلما دخلنا المنزل توجهت مباشرة إلى (الحوش) لتفقدهما، ففوجئت بوجود أربع نخلات متوسطة العمر، قد غرست في الزوايا الأربع، وبأبعاد متساوية؛ فوددت في سري، أن لو عرفت النخلتين الأوليين اللتين حدثني عنهما، ودار في خلدي أن لو كان مالكهما حيا لعرّفني بالنخلتين المعنيتين؛ خنقتني العبرة فأخفيتها وتنحيت جانبا حتى لا يراني أصحابي.
قضينا الليلة صحبة الأساتذة عبد الرزاق قسوم وأحمد شوتري وعبد الحفيظ مقران، في منزل أحد أقرباء عائلة سعد الله، الذي رحب بنا أحسن ترحيب كما هي عادة أبناء الصحراء الكرماء.
فشكرا للجميع، ووفق الله ابن المرحوم، أحمد سعد الله، وأنعم بالصحة والعافية على أهل سعد الله جميعا.
رغبات ووصايا تحققت
كانت رغبة المرحوم أن” يموت في داره وأن يدفن في قمار”؛ وقد تحققت هذه الرغبة، وكانت وصيته أن تكون جنازته بسيطة ومتواضعة؛ وقد تحققت هي أيضا. رحمه الله وأسكنه فسيح جنانه.
*صديق الدكتور سعدالله