عقدة الشهادة/التهامي مجوري
قيل عن عباس محمود العقاد أنه لو ترشح لنيل شهادات بالكتب التي ألفها لنال بكل كتاب شهادة دكتوراه، لما عرف عنه من دقة في البحث وصرامة فيما توصل إليه من آراء وأفكار، واستعلاء عن الميوعة التي أصيبت بها الطبقة المثقفة في العالم الإسلامي، وهو لا يملك من الشهادات إلا شهادة الميلاد والشهادة الابتدائية.
وما قيل عن العقاد، يقال عن الكثيرين من أمثاله وممن هم أفضل منه، كالشيخ محمد عبده وجمال الدين الأفغاني والكواكبي وحسن البنا وابن عاشور وخير الدين التونسي وابن باديس والإبراهيمي وغيرهم وغيرهم من المفكرين والأدباء، وكل هؤلاء ليسو دكاترة، بل ولم يكن اهتمامهم بالشهادة حتى وهم يدرسون في المعاهد والجامعات، بقدر اهتمامهم بالعلم وتحصيله، ومن ثم ملأوا بلاد المسلمين بالأفكار والإبداعات، وعملوا على توزيعها على أكبر نطاق أكثر من حثهم الناس على نيل الشهادات.
ولكن لما انقلبت الأمور وأصبح الناس يهتمون بالحصول على الشهادات سعيا وراء الخبزة والمنصب والمكانة الاجتماعية الزائفة، ذهب الفكر و”راح العلم في كيلة زيت”، وأضحت مصيبة الشهادة تطارد الناس في حلهم وترحالهم..فمن لم يكن دكتورا قد لا يسمع لقوله ولا يلتفت إليه إلا إذا تكلم، وربما إذا تكلم لا يصغى إليه إلا بقدر الشهادة التي يحملها، فإذا كان دكتورا استمع عليه بقدر كتوراه وإذا كان دون ذلك كان له من الحظ من آذان الناس بقدر مستوى شهادته، وهذه المشكلة لمستها في أكثر من مناسبة وفي أكثر من مكان، ولا أذكر أنني صادفتها عند لقائي بأولي العزم من رجال الفكر والدعوة، أو عند قراءتي لهم أو قراءتي عنهم من قدامى القدوم وحديثهم، وإنما وجدتها عند المغرر بهم من المثقفين والعلماء والدعاة وأشباه المثقفين والعلماء والدعاة.
ففي العام الماضي 1434هـ_2012م أكرمني الله بالحج إلى بيت الله الحرام، وكانت لي فرصة في إطار نشاطات رابطة العالم الإسلامي أن عقَّبت بكلمة على أحد المحاضرين، فاتصل بي شخص من الرابطة وقدم إلي استمارة انخراط في هيئة للعلماء، وطلب مني ملأ هذه الاستمارة لأكون ضمن هذه الهيئة، ولما اطلعت على الاستمارة لاحظت أن فيها تركيزا على الشهادات أكثر من الاهتمام بمستوى المترشح وإنتاجه الفكري، فقلت لصاحبي، هذه الاستمارة تهتم بالدكاترة وأنا رجل عصامي ولا أملك شهادات، فقال لي املأها وسنرى فيما بعد..وبعد أن ملأتها لم أر الرجل الذي كان يتابعني كالظل في البداية من أجل أن أسلمه الاستمارة، لأنه اكتشف أنني لست دكتورا، ثم علمت أن هذا الرجل تقدم بالرسالة التي نال بها الدكتوراه من أجل نشرها في الرابطة فرفضت الرابطة نشرها بسبب ضعفها..يا سلام على الدكتوراه..
ولاحظت هذه العقدة بصورة أخرى عند إخواننا المغاربة بشكل أخف وأبعد عن الميوعة، بوضعهم حرف الذال “ذ” للتعبير عن الأستاذ بدل الدال “د” التي تعني الدكتور، تعاطفا مع الأساتذة الذين ليسوا من الدكاترة، فيكتب ذ. فلان أي الأستاذ فلان، وإذا كان دكتورا يقال د. فلان، والذي يقرأ الصحف المغربية، لا يكاد يفرق في الألقاب بين الدكتور والأستاذ، لأنه لا ينتبه إلى الفرق بين الدال والذال.
وعلمت أن الشيخ العلامة أحمد السنوسي كان يدرس في معهد الحضارة الإسلامية، ولكنه كان يتألم لكونه لم يكن دكتورا، رغم أنه يزن عشرة من دكاترة الزمان، حتى أن بعض محبيه من تلامذته اجتهدوا في أن يمكنوه من الحصول على دكتوراه فخرية حتى لا يموت وفي نفسه غصة ولا أدري تحقق ذلك أم لا؟..
فالشهادة ليست أكثر من الجانب الشكلي لضبط المستوى العلمي، فمستوى الدكتور مثلا من الجانب الشكلي حاصل على الدكتوراه، أما من جانب المضمون فمفترض فيه أن يكون في مستوى معين لا يجوز أن يكون دونه، أما حقيقة العلم ومستواه ومقداره فمحله قلوب الرجال وصدورهم، لاسيما العلوم الإنسانية التي لا يزال الفكر الإنساني فيها متخلفا عن حركة الإنسان، وذلك يكون مع الدكتوراه وبدونها.
وعليه فإن الأهم في الموضوع هو المضمون وليس الشكل؛ لأن هذا المضمون هو الذي كان من أجله الشكل، فالعلم والفكر أولا ثم جاءت الشهادات لتكون رمزا على ما في قلوب الناس وصدورهم من معارف..ولما تكون الشهادة لا تعبر عن المضامين فلا معنى لها؛ بل هي وبال عليها، وأقول هذا لأن الملاحظ أن الاهتمام بالأشكال غلب المضامين، فيقدم الدكتور ويبجل وهو غير منهجي في طرح أفكاره؟ أو لا يحب القراءة؟ أو ليس له فضول علمي، أو غير متابع لما ينتج في تخصصه، أو زاهد في الاهتمام بالشأن العام، ويؤخر من ليس دكتورا لمجرد أنه ليس له شهادة ولو كان من أعلم العلماء..ومع ذلك وجدت من هؤلاء من فرض نفسه على الناس، ولم أر من دكاترة الجهل من استطاع رفع رأسه في نقاش علمي جاد.