ويسألونك عن السياسة في الجزائر…!/الدكتور عبد الرزاق قسوم

أَعترف، بأنّي لست خبيرًا، ولا بصيرًا في السياسة، وما أوتيت من علم السياسة في الجزائر إلا قليلا. لذلك لا يُلام قلمي إن هو نبا، ولا عقلي إن هو خبا، ففشل الأوّل في الكشف عن دهاليز الحقيقة، وعجَز الثاني عن فك ألغاز الطريقة.
فإذا علمنا أنّ عالَم السياسة في الجزائر ليس علمًا دقيقًا، وإنّما هو أشبه ما يكون بكتاب أدغال، لا تحكمه منهجية في الأقوال أو الأفعال، ولا تُسيِّره قواعد المؤسسات أو علم الرجال، أدركنا كيف أنّ الداخل إلى هذا العالم مفقود، والخارج منه مولود.
إنّ عالَم السياسة في الجزائر منهجه أن لا منهج له، فهو غموض يفتقر إلى الشفافية، وألغاز تطبعها ضبابية فوقها ضبابية. إنّه مسرحية يفتقر الممثلون فيها إلى المخرج الخبير، وإلى الملقِّن القدير.
من هنا بدأ سرّ الرُّكود الذي يطبع الحياة الحزبية السياسية في الجزائر، تلك الحياة التي تفتقر إلى المرجعية أيًّا كانت قناعتها، والتي غالبًا ما تستلهم منها الأحزاب في كلّ بلدان العالم على اختلاف توجهاتها ذات اليمين وذات اليسار، منهجية سلوكها، وطريقة عملها، وبُعد أهدافها.
وتنعكس هذه القطيعة مع الأصول المرجعية للإيديولوجية الحزبية عندنا على كلّ ألوان الأداء السياسي، بحيث لا يمكن تصنيف أي تجمع ضمن التصنيفات السائدة في العالم، سواء المحافظة منها أو الليبرالية، وسيان في ذلك الأحزاب الدينية أو الأحزاب العلمانية.
وإذا علمنا أنّ هذه الأحزاب هي التي تصنع الطبقة السياسية الحاكمة في كلّ بلد أيقنا معنى البلبلة السائدة على مستوى الطبقة السياسية الحاكمة. ففي كلّ القرارات السياسية المتخذة في بلدان العالم، يمكنك أن تقوم بعملية حسابية منطقية في ظلّ التوجه السائد، لتعيد القرارات إلى مرجعية معبئة، إلا في بلدنا، فأنت لا تعرف السرّ في تغيّر الأحوال بذهاب والٍ أو مجيء والٍ.
ويكاد يندرج هذا على الخطاب السياسي والإصلاحي التربوي، والأداء الاقتصادي، مما يفرز هذا الاضطراب السلوكي الاجتماعي، وهذا العنف الأخلاقي، اللفظي، والمادي، والمعنوي، من الاعتداء على الأصول، ومن زنى المحارم، ومن اختطاف، واغتصاب، وإجرام بجميع أشكاله وألوانه…
ويسألونك عن موقع السياسة من كلّ هذه الآفات السائدة؟ فقل إنّ السياسة لا تزال تبحث لها عن أساس مرجعي صلب تنطلق منه، وعن مرفإ مريح ترسو عليه، وما بين الأساس والمرفأ ضاع الأصل والفصل.
إنّ السياسة التربوية التي تعلِّم ولا تربِّي وتقطع الطفل من جذوره المرجعية الأصلية هي التي أنشأت لنا التلميذ الذي يَكفر بدينه وتاريخه، والطالب الذي يَضرب أمّه، ويَقتل معلِّمه، والشاعر الذي ينادي بإلغاء التربية الإسلامية من المنظومة التربوية لأنّها هي التي تحفز الشباب على التمرّد والصعود إلى الجبل، ولازلنا نحن نذكِّر أنّ الشعر هو الذي لقننا:
ومن لا يحِبُّ صعود الجبال
يعش أبد الدهر بين الحفر
وإنّ الفلسفة السياسية المتَّبعة هي التي تُقصي أهل الحلّ والعقد من رسم الخريطة السياسية، ووضع المواثيق والدساتير، وتُقصي المثقفين، والمبدعين من صياغة السياسة الثقافية المتأصّلة، الضاربة بجذورها في أعماق شعبها، وثوابت وطنها.
إنّ هذه الفلسفة السياسية هي التي تُسنِد مقاليد المسؤولية على أساس الولاء لا على قاعدة القدرة وحسن الأداء، ومن هنا جاء كلّ البلاء.
لذلك يصِّح القول بأنّ السياسة في وطننا مريضة، وعلاجها لا يكمن في تغيير الأشخاص، وكتم الأنفاس، وإنّما في البحث عن تصوّر جديد للمؤهَّل للقيادة الذي يصدق قومه في الريادة، ويصون شعبه في صيانة مقوّمات السيادة، بدءًا بتعميق معنى التديّن، وحسن أداء العبادة، إلى العزوف عن كلّ أنواع الطائفية، والجهوية، والحزبية الضيّقة… فكلّ جزائري كفء، نزيه، وطني، مخلص، مؤمن بثوابت وطنه، هو أهل للمسؤولية، أيًّا كان مسقط رأسه من الوطن، وأيًّا كان طيفه السياسي في العلن، فالمهم أن لا يتسم بخضرة الدمن، ولا يكون من دعاة إشاعة الانهزامية والوهن.
إنّ الوعي بالضعف قوّة، وإنّ تشخيص الداء هو نصف الدواء، ونعتقد أنّ كلّ المخلصين من أبناء هذا الوطن قد أدركوا سرّ ما يعانيه وطننا من جمود وركود، وجحود، فلا بدّ –إذن- من أن يتنادى الوطنيّون الصادقون لإنقاذ وطنهم مما هو فيه. يجب أن يدرك الجميع، بأنّنا صرنا مطوقين بكلّ أنواع الفتن الداخلية والخارجية، وأنّنا صرنا بذلك عرضة لنزيف طاقاتنا، ونهب ثرواتنا، ونضوب خيراتنا، واهتزاز سمعتنا. فليس العيب أن نسقط، وإنّما العيب كلّ العيب أن نبقى ساقطين كما يقول الفيلسوف الوجودي “جان بول سارتر”.
ويبقى -في النهاية- السؤال الملِّح: ويسألونك عن السياسة في الجزائر؟ فقل أنّها تعاني الخلل، والشلل، الذين يؤديان إلى فقد الأمل، وقلّة العمل، وما السبيل إلى النهوض من الكبوة؟ والاستفاقة من الغفوة؟ إنّه المراجعة لكلّ شيء، والعمل على تصحيح كلّ شيء… إنّ الزمن يمرّ، وإنّ أخطر لص في الحياة هو سارق الزمن… أي هو الذي يسرق منك مستقبلك.