مصر… المضحكات/الدكتورمحمد دراجي
كم ذا بمصر من المضحكات ولكنه ضحك كالبكاء
وأخيرا انقشع الغيم بلا مطر، وأسفر الصُبح بلا ضوء، وتمخض الجبل فولد فأرا، وتأكدنا بأن ما ظنناه بأنه نكاح شرعي، هو سفاح منكر، أثمر أولادا غير شرعيين تظل اللعنة تطاردهم حيثما حلوا وارتحلوا.. وخاب فأل الشاعر الذي ظن بأن اشتداد الأزمة مؤذن بقرب انفراجها، فراح ينفث ما في صدره من لواعج، فقال:
اشتدي أزمة تنفرجي قد آن صبحك بالفرج
فإذا بنا نكتشف بأننا ننحدر من سيء إلى أسوأ، ومن نفق مظلم إلى سرداب مُعتم.
كم كانت أحلامنا كبيرة، وآمالنا عريضة، ونحن نتابع عبر الفضائيات جموع الشعب المصري، وقد توحد على قلب رجل واحد، وزحف نحو الميادين، وظل ثابتا كالطود، إلى أن أسقط الدكتاتور، رمز الفسق والطغيان، وحامي إمبراطورية الفساد الذي ضرب أطنابه حتى أصبح الهواء الذي يتنفسه الناس، وبدا الدكتاتور جبانا ذليلا مقيدا في الأغلال، تنتظره محاكمات عادلة يُقتص فيها للمظلومين في أموالهم وأعراضهم، وهذا أكد لنا المنظور القرآني الذي قرر بأن الدكتاتور هو وليد بيئة اجتماعية وثقافية وسياسية، إن القرآن الكريم يقول عن فرعون اللعين {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} الزخرف54، فالشعوب بخنوعها وسكوتها هي التي تصنع الدكتاتور الذي قد يصل به الأمر –إما بلسان المقال أو بلسان الحال- إلى إدعاء الربوبية والاعتقاد بأنه من طينة غير طينة الشعب الذي يحكمه بالعنف ويسوسه بالباطل، وإلا فهو في حقيقة الأمر جبان من الطراز الأول، إذ بمجرد ما تزمجر الشعوب غاضبة، ويجتمع هديرها صانعا تيارا جارفا، وسيلا أتيّا، حتى يعود المارد المزيف إلى قمقمه ويعرف حجمه الحقيقي.
ولكن وبمجرد ما سقط الدكتاتور حتى اعتقد جموع المظلومين بأن المعركة قد انتهت، وبدأ كل فريق يفكر في الغنيمة والمكاسب المادية، فسيطرت على الجميع (العقلية الحُنينية) وعوض أن يتفقوا على خارطة طريق توصلهم إلى شاطئ الأمان، وتُجنب البلاد الوقوع في عديد المطبات وتقيلها من العثرات، أصبح كل فريق يجر النار إلى قرصه، ويزعم بأنه هو أبو * الثورة وزعيمها، ويسعى بكل ما أوتي من قوة للإنفراد بالسلطة وإقصاء باقي الفرقاء، وهنا مربط الفرس، وهو كيف نتجاوز هذا الاختلاف المحتدم، والجواب أن الثورة كما يقول علماء الاجتماع السياسي هي تغيير جذري في المفاهيم والذهنيات، والوسائل والآليات، وأول مفهوم دخل الساحة هو مفهوم الديمقراطية، والديمقراطية هي أقل الأنظمة السياسية سوءا، وهي في أبسط معانيه عدم اللجوء إلى القوة في فض الخلافات السياسية، وإنما يعرض كل فريق برنامجه السياسي والاقتصادي، ورؤيته للمشكلات والتحديات التي تواجه المجتمع، ويتوجه الجميع إلى الشعب الذي يختار عن رضى وطواعية البرنامج الذي يراه الأفضل والأفيد، على اعتبار أن الشعب هو مصدر السلطة، وفي الأخير يهنئ الجميع الفائز، ويتخندق الخاسرون في معارضة مفيدة للسلطة الحاكمة، إذا تُبين لها عيوبها، وتساعدها على تجاوزها، وهنا يحضرني قول أحد المفكرين اللبنانيين المعاصرين وهو: “لا يمكن بناء الديمقراطية من دون ديمقراطيين”.
ولكن المفارقة الكبرى، واللازمة التي لا تتخلف هي أنه عند كل تحول ديمقراطي في أي بلد إسلامي، نجد أن العلمانيين هم أول من يكفر بالديمقراطية، ويتنكرون للاختيار الشعبي، وذلك بسبب أنهم معزولون عن الجماهير، بعيدون عن الشعب لأن الخلفية الفكرية التي يصدرون عنها لا تتماشى والانتماء الحضاري والفكري للشعوب الإسلامية التي تريد الإسلام عقيدة وشريعة ومنهج حياة، فيلجأ هؤلاء العلمانيون المتمكنون من مفاصل الدولة، إلى إمكانات الدولة ذاتها ومؤسساتها ويتمترسون خلفها، ويجتهدون بكل قوة عن طريق وسائل الإعلام التي هي في معظمها تحت سلطتهم وفي خدمتهم ليصوّروا المسألة بأنها صراع بين الإسلاميين والدولة، بين الإسلاميين والحداثة، بين الإسلاميين والعالم الخارجي…إلخ. والحقيقة أن المسألة هي أن تلك النخب العلمانية ترى نفسها هي الدولة، وهي الحداثة، وهي الأحق بخيرات ومقدرات البلد، وهي الأولى بالمسؤولية والمناصب والتمثيل، حتى إذا جاء من ينافسها بالوسائل الديمقراطية، وبالاختيار الحر فيما تراه حقا خالصا لها، قلبت ظهر المجن للديمقراطية، وكفرت بمبادئها، ولجأت إلى القوة المتمثلة في الجيش تستدرجه إلى مستنقع السياسة، وتتمترس خلفه، وتدفع به في وجه الإسلاميين، وليدخل البلد في حرب أهلية أو صراع داخلي، كل ذلك لا يهم، إنما المهم هو إقصاء الإسلاميين ولتذهب الديمقراطية إلى الجحيم، ولا أهلا ولا سهلا بها ما دامت تزيحنا عن مراكز السلطة والاستفادة من مقدرات البلد، وأهلا وسهلا بأحذية الجيش لتدوس على الاختيار الشعبي، ولتستحق منا كل تحية تقدير، ولكن الأوطان هي التي تدفع الأثمان، والشعوب هي التي تعاني الويلات، فما لم نستأصل هذه الغدد السرطانية بالوسائل الديمقراطية من المجتمعات الإسلامية، فلن تتعافى هذه الأخيرة، ولن تعرف لها طريق المستقبل الزاهر.