الغياب الصحي، والتغييب السياسي/الدكتور عبد الرزاق قسوم

لا أريد أن أشغل ذهن القارئ العزيز بمعضلة الشكل، في عنوان هذا المقال، فأشرح له الجانب اللغوي في فقه اللغة، والجانب المعنوي في فلسفة المعنى، لهذه التقابلية بين الغياب والتغييب، ولا بين الصحة البدنية والصحة السياسية.

فيكفي القارئ الجزائري، ما يعانيه من اضطراب وتوتر نفسيين، جراء التساؤلات التي يطرحها، أو تطرح عليه، حول مرض رئيس بلاده الذي طال.
إن المواطن، في جزائرنا، جزائر العزّة والكرامة، لم يعد يدري، ما يريده، وما يراد له. وتالله إنّ هذا الصمت المريب الذي طال، وهذه الأخبار الشحيحة، التي ما فتئت تتخذ لها مصادر شتّى من داخل الوطن وخارجه، وكلّها تبعث برسائل مطمئِنة حول صحة الرئيس، “التي لا تبعث على القلق”، لم تجد لها تجسيدا على أرض الواقع.
فلم تنجح الكاميرا الجزائرية أو الأجنبية في اختراق جدار الصمت المضروب على البيان الطبي لصحة الرئيس، ولا على الجانب الصحي الذي يُمَكِّن من إطلالته على شعبه، فيبعث إليه بعبارة سلام، أو جملة كلام، أو لفتة ابتسام.
وإنّ مما زاد الطين بلّة، والنّفوس حيرة، عدم تجسيد مضامين التصريحات، فقد أعلن عن عودته خلال أيّام، ومرّت الأسابيع ولم يَسْعَد الشعب الجزائري بطلَّةِ الرَّئيس.
وأعلن عن استقباله المبرمج لضيف الجزائر الرئيس التركي “رجب الطيب أردوغان”، وحضر الضيف وغاب المضيف، كما أعلن عن ترؤسه القريب لمجلس الوزراء، ولا يزال الوزراء، والرّأي العام في انتظار المجلس الموعود.
هل كان لابدّ أن يتطلّع الشعب الجزائري للفنان الفرنسي “انريكوا ماسياس”، كما تطلّع من قبل في التجربة المرضية السابقة إلى “الشاب مامي” كي يتلمّس أخبار رئيس البلاد في أمر خصوصي هو صحة الرئيس، وفي أمر عمومي هو صحة البلاد بأكملها؟.
وهل كان لابدّ أن تَشرئِب أعناق المواطنين إلى وزير الخارجية الفرنسي، كي يعلمهم عن تطوّر الحالة الصحية للرئيس؟ بل وهل كان من المنتظر أن يبعث الرئيس الفرنسي نفسه، بما يطمئن الجزائريين عن صحة رئيسهم؟
إنّ “المواطَنَة الجزائرية” قد أصبحت عاجزة عن الفهم، أمام تعقيد هذا الملف المتعلِّق بالغياب الصّحي، والتّغييب السياسي، ومردُّ هذا العجز ندرة المعلومات المتوفرة، وكثرة التحركات السياسية لمسؤولي الدولة، وزعماء الأحزاب مما يبعث على أكثر من تساؤل.
لقد سبق وأنْ أعلنا، وأكدنا -من هذا المنبر- أنّ مرض الرئيس، هو في جانبه الإنساني، حدث عادي فما هو إلا بشر، يطرأُ عليه كل ما يطرأ على البشر، فمن حقه أن يغيب لمرض طارئ أيًّا كان نوع هذا المرض، ولكن مرض الرئيس عندما يقرأ قراءة سياسية، يفسح المجال لكلّ التأويلات، ويدفع إلى الكثير من التساؤلات، خصوصا إذا ما صاحبه تكتُّم وصمت، وتضاربٌ في التصريحات والتلميحات، عندها يصبح المرض عموميًا لا خصوصيًا، وتصبح البلاد هي المريضة بمرض الرئيس.
قلنا، ولا زلنا نقول، بأن من نافل القول التأكيد بأنّ أيَّ رئيس، هو ليس مِلكًا لنفسه فقط ولا لأسرته، وإنّما هو مِلكٌ للوطن بكامله، وبحكم هذه الصفة، فإنّ من حق مواطنيه أن يعلموا عنه كلّ جزئيات حياته في الصحة والمرض معًا، فذلك هو ثمن المسؤولية! فمتى يدرك الجميع هذه الحقيقة؟.
لا نريد –علم الله- أن نقحم أنفسنا في الزوايا الضيِّقة والمظلمة من جوانب هذا الملف الصحي السياسي الشائك، فأيًّا كانت النتائج التي سيفضي إليها هذا التطوّر، فإنّنا قوم مؤمنون، نسلِّم بقضاء الله وقدره، ولكنّنا بالمقابل نحن قوم وطنيّون يهمنا بالدرجة الأولى أمر هذا الوطن، الذي من أبسط حقوقه علينا، أن نحميه من الهزات، وأن نصونه من عواقب الارتدادات، وأن نحيط مصيره بكل الضمانات، وأحسن التوقعات. ومبدؤنا في كلّ ذلك أن الأشخاص يزولون، والوطن باق.
لذلك فإنّ أبسط قواعد المنهج في التعامل مع الملف الصحي والسياسي لمرض الرئيس أن يحاط بكلّ الشفافية والوضوح، فلا أحد من الناس، حتى خصومه، يتمنون له غير الصحة والسّلامة، ولكن الجميع أيضا يتمنون من قبل ومن بعد، صحة الوطن والمواطن، وسلامتهما على كلّ الأصعدة.
فما للقائمين على هذا الشأن عندنا لا يكادون يفقهون حديث الصحة والسياسة؟
كنّا، ولا زلنا، نأمل أن يتوجه وفد من أعيان الوطن، لزيارة الرئيس في مصحته، وزيارة المريض من أوجب الواجبات، وهي حقّ المسلم على المسلم، فكيف إذا كان الأمر يتعلق برئيس البلاد والعباد، وكما يقول إخواننا في مصر “الـمـيّة تكذب الغطاس” وما راء كمن سمع.
ما الذي يحول دون توجه أعيان من أهل الحلِّ والعقد في البلاد، أن يتوجهوا إلى مصحة “المصابين” للاطمئنان على صحة رئيسهم، فينقلوا إلينا صورة صادقة عن حالته الصحية والسياسية فنحن نريد أن نسمع ممن عاينوه، وشاهدوه فتطمئن قلوب الناس، ويعلموا –بكلّ دقة- حقيقة هذه النقاهة التي طالت، وتدهور هذه الصحة، وإلى أين آلت؟.
لو فعل القائمون –على الشأن عندنا- بهذه الوصفة الشعبية، الصحية، السياسية، لوضعوا حدًا لكلّ أنواع الإشاعات، ولتعاملوا مع الحدث بمنتهى التحضر، وأساليب القناعات.
إنّنا نتطلع إلى أن يقوم المؤتمَنون على الملف الصحي والسياسي للرئيس بوتفليقة بلفتة نحوه، ونحو شعبه، كي يزيلوا اللُّبس والإبهام، ويجعلوا المريض وشعبه يعيشون في طمأنينة وسلام، واللّهم لا شماتة!

Exit mobile version