مصرف السلام الجزائر .. خدمات بنكية أصيلة
الملتقيات والندواتنشاطات الجمعية

رحلة الربيع إلى طرابلس/أ.د مولود عويمر

لم أتردد كثيرا في قبول الدعوة للمشاركة في ملتقى دولي ينظمه المركز الليبي للمحفوظات والدراسات التاريخية بالتعاون مع السفارة الجزائرية، رغم كل الأنباء السيئة لتي تنشرها وسائل الإعلام عن ليبيا والصور المؤلمة التي تبثها عنها القنوات الفضائية. ونصحني بعض الأصدقاء بتأجيل الزيارة إلى أن تستقر الأوضاع في هذا البلد الطيب. وفعلا وقعت أحداث خطيرة خلال الرحلة لكنني لم أسمع بها إلا بعد عودتي إلى الجزائر، ولم تؤثر بالتالي على يومياتي الطرابلسية الآمنة.

لقد كنت مصمما على السفر والتعرف شخصيا على تطور الأحداث في ليبيا مقتنعا أن الموت قدر لا مفر منه ولو كنت في “بروج مشيدة”، فضلا عن ذلك فإنني لا أسافر إلا من أجل نشر العلم والمعرفة ولقاء الطلبة والعلماء.

وهكذا تفرغت لإنجاز بحثي المطلوب حول اهتمامات جمعية العلماء الجزائريين بالقضية الليبية ولم يشغلني عنه إلا التدريس في الجامعة وبعض النشاطات الفكرية. وتلقيت خلال تلك الفترة خبرا يقينا زادني اطمئنانا إلى ما قررت. فالكاتب المعروف الأستاذ محمد الصالح الصديق والوزيران السابقان لمين بشيشي وعبد الرحمان شريف سيشاركون معي في ذلك الملتقى بتقديم شهاداتهم عن تضامن الشعب الليبي مع الثورة الجزائرية أثناء عملهم في مكتب جبهة التحرير الوطني في طرابلس وبنغازي. وكذلك الأستاذ عبد المجيد شيخي المدير العام للمركز الوطني للأرشيف الذي سيتحدث عن أهمية الأرشيف في تعزيز العلاقات الجزائرية الليبية.

في فندق باب البحر

التقيت بتلك الشخصيات العلمية والسياسية يوم الأحد 31 مارس في بهو المطار الدولي هواري بومدين. وكان الأستاذ شيخي مرفوقا بموظفتين في مركز الأرشيف الوطني للإشراف على المعرض التاريخي المقام على هامش الملتقى وتدريب الليبيين.على الطرق الحديثة للحفاظ على الأرشيف في ورشة خاصة.

سافرنا في طائرة تابعة للخطوط الجوية الجزائرية التي حلقت بنا في السماء متجهة إلى طرابلس. وصلنا سالمين إلى ليبيا بعد أقل من ساعتين. استقبلنا في مطار طرابلس الدولي السيد عبد الحميد بوزاهر سفير الجزائر في ليبيا والوزير المستشار الأستاذ إبراهيم قماس وعدد من الموظفين الساميين في السفارة وبعض الإخوة الليبيين. استرحنا في القاعة الشرفية لمدة نصف ساعة ثم توجهنا إلى فندق باب البحر في قلب مدينة طرابلس.وكان هذا الفندق الكبير تتوفر فيه كل وسائل الراحة والاستجمام.

نزلنا -نحن الضيوف- في غرف مريحة في الطابق السابع. وتطل كل غرفة على البحر، غير أنني لم أستمتع كثيرا بتلك المناظر الخلابة لقصر مدة الإقامة وكثافة البرنامج، فنحن نخرج من الفندق صباحا ونعود إليه في الليل مرهقين. وكان من حسن الأقدار أن غرفتي تقع بجوار غرفة الأستاذ محمد الصالح الصديق. فكلما خرج لتناول فطور الصباح أو العشاء، دق على الباب لأصطحبه. وكانت نعم الصحبة؛ فكنت حريصا على خدمته خلال خمسة أيام حتى لا يصيبه ملل أو نصب. وكان من جهته، كريما معي بالبوح بذكرياته الخاصة مع مشاهير العلم والأدب والسياسة في الجزائر والعالم العربي. فتعرف كل واحد منا على معدن الآخر بعد أن تعرفنا منذ عدة سنوات من خلال المقالات والكتب واللقاءات السريعة.

في مركز المحفوظات والدراسات التاريخية

في يوم الاثنين صباحا زار الوفد مركز المحفوظات والدراسات التاريخية الذي تأسس في عام 1977. وكان معروفا من قبل باسم مركز جهاد الليبيين للدراسات التاريخية. وقد ترأسه منذ تأسيسه إلى اليوم الدكتور محمد الطاهر الجراري خريج جامعة ويسكنسن ماديسون بالولايات المتحدة الأمريكية. وتحدث الدكتور الجراري عن أبرز المحطات التي مر بها المركز، وأشار إلى أهم العقبات التي صادفته خلال نصف قرن من العمل المتواصل الدؤوب، وكشف عن أهم برامجه المستقبلية، وذكر من بينها إبرام اتفاقيات التعاون مع مركز الأرشيف الوطني الجزائري.

وعبّر الأستاذ عبد المجيد شيخي عن استعداد المؤسسة التي يديرها على مساعدة الليبيين على تحقيق مشروع تنظيم الأرشيف. وأثار الأستاذ شيخي مشكلة عزوف الباحثين الجزائريين عن العمل في المركز الوطني للأرشيف وتفضيلهم البحث في المراكز الفرنسية. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل الخلل يكمن في الباحث الجزائري أم أن الخلل موجود في هذه المؤسسة التي لا توفر الشروط المساعدة على البحث؟ إنه إشكالية جديرة بالدراسة والاهتمام.

حرص الدكتور الجراري على تنظيم جولة قصيرة في المركز ليعرّفنا بكل الأقسام ومقتنياتها والمخطوطات النادرة والوثائق والأشرطة السمعية البصرية. وقد شعر غالبية الأساتذة بالتعب والإرهاق بعد زيارة طابق واحد فرجعوا إلى مكتب المدير بينما واصلت وحدي الجولة العلمية. دخلت إلى قسم المخطوطات فقدم لي الدكتور إبراهيم سالم الشريف شروحات عن أهم ما يكنزه من النوادر منها: مخطوط ” اليوميات الليبية” سجل فيها صاحبها حسن الفقيه حسن تفاصيل عن تاريخ ليبيا الحديث ورحلاته ومشاهده يوما بعد يوم. وهو فن نادر في الأدب العربي القديم والحديث.

وزرت بعد ذلك مصلحة الأوراق الشخصية أين تحفظ ملفات تضم وثائق ورسائل لأعلام ليبيين وأجانب منها: ملف سليمان الباروني ومحمد البشير الإبراهيمي وغيرهم. وقد اطلعت بسرعة على ملف الأول، بينما لم أتمكن من الاطلاع على ملف الثاني لأنه مازال قيد التصنيف. وسعدت كثيرا بالعثور على نسخة من العدد الأول لجريدة ” الأسد الإسلامي” التي أصدرها الشيخ سليمان الباروني في القاهرة في عام 1907.

أشهد أنني انبهرت بفعالية هذا المركز العربي الذي دأب منذ خمس وعشرين سنة على العطاء العلمي بإصدار الكتب والمجلات الأكاديمية وتنظيم الملتقيات والندوات التاريخية والفكرية. ويكفي أن أقول أنه أصدر أكثر من 600 كتاب حول تاريخ ليبيا في القديم والحديث، وعدة سلاسل علمية منها: الوثائق الإيطالية، الوثائق الألمانية، موسوعة روايات الجهاد، قصائد الجهاد، فهرس الرواية الشفوية، السير والتراجم.

كما يصدر المركز أربع دوريات أكاديمية هي: مجلة البحوث التاريخية (سداسية) تعنى بالدراسات التاريخية الليبية والعربية، مجلة الشهيد (سنوية) مختصة في تاريخ المقاومة الليبية، مجلة الوثائق والمخطوطات (سنوية) تهتم بنشر وتحقيق نصوص المخطوطات والوثائق والدراسات المتعلقة بها، وأخيرا مجلة الإنصاف (سنوية) تعنى بشؤون أضرار الاستعمار والحروب ومخلفاتها على الأراضي الليبية. وقد وفقني الله أن أطلع على كل هذه المجلات وأستفيد منها في حدود وقتي الضيق ذلك أنني كنت أتسلل من قاعة المؤتمرات في وقت الاستراحة والغذاء فأجلس في المكتبة للمطالعة والاستكشاف العلمي.

كنت أغتنم الفرصة للبحث عن كل ما له علاقة بتاريخ العلاقات الثقافية بين الجزائر وليبيا في الفترة المعاصرة. فوجدت دراسات قليلة حول هذا الموضوع لا ترقى إلى مستوى الصلات الثقافية والسياسية العميقة بين البلدين. أذكر من بين هذه الدراسات: “المجاهد مصطفى الجزائري” للأستاذ محمد ميلاد مبارك (مجلة الشهيد، 1984)، ” دور الشعب الليبي بمنطقة طرابلس في مساندة الثورة الجزائرية…” للدكتور حبيب وداعة الحسناوي (مجلة البحوث التاريخية، 1994).”، “دور الشعب الجزائري في دعم حركة الجهاد في ليبيا” للدكتور مصطفى علي هويدي (مجلة آفاق تاريخية، 1997).

أما كتابات الجزائريين في الدوريات الأكاديمية الليبية فهي كذلك قليلة جدا. فعلى سبيل المثال لم ينشر في مجلة البحوث التاريخية التي يصدرها المركز الليبي خلال خمسة وعشرين عاما إلا أربعة باحثون جزائريون، وهم: عبد الحميد حاجيات، يحي بوعزيز، ناصر الدين سعيدوني، وخديجة منصوري. كما عثرت على مقال واحد في مجلة الشهيد للباحث الجزائري مصطفى حداد حول موقف الجزائريين من الغزو الإيطالي لليبيا.

أما في مجال تبادل الإصدارات فلم أجد إلا أعدادا قليلة من مجلة التاريخ الصادرة عن المركز الوطني للدراسات التاريخية في السبعينات، ومجلة الآداب والعلوم الإنسانية التي تصدرها جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية بقسنطينة. وعلمت فيما بعد أن أساتذة من هذه الجامعة هم الذين أهدوا نسخا من المجلة الأخيرة لهذا المركز خلال زيارتهم له في عام 2007.

الصالون الأدبي محمد رجب طرنيش

استقبلنا الأستاذ عادل الهادي المشيرقي في قصره في مساء يوم الاثنين 1 أفريل. وهو نجل أحد أثرياء طرابلس ومناضل معروف في سبيل القضية الجزائرية. وقد نشر والده في عام 2000 ذكرياته حول الثورة الجزائرية عنوانها:”قصتي مع ثورة المليون شهيد”. يستضيف الأستاذ عادل في الاثنين الأخير من كل شهر نخبة من المثقفين الليبيين في داره لإقامة ندوة ثقافية. وأطلق على هذا اللقاء الشهري الصالون الأدبي محمد رجب طرنيش تكريما لهذا الكاتب الصحفي وتخليدا لهذا الناشط الحقوقي الذي توفي يوم 19 جويلية 2011م.

وتناقش في كل مرة قضية ثقافية أو يعرض كتاب أو تقام أمسية شعرية. وبرمج المقيمون على الصالون موضوع الدعم الليبي للثورة الجزائرية للإثراء والمناقشة. وتحدث كل من الأساتذة محمد الصالح الصديق ولمين بشيشي وعبد الرحمان شريف عن ذكرياتهم في ليبيا خلال الثورة التحريرية. ونشط اللقاء رئيس رابطة الأدباء والكتاب. وتدخل العديد من الأساتذة الليبيين للتأكيد على مساندة بلدهم حكومة وشعبا للكفاح الجزائري بالمال والسلاح والإعلام خلال ثورة التحرير، وتوفير كل الشروط لعقد اجتماعات الحكومة الجزائرية المؤقتة في طرابلس في أمن وحرية تامة.

وقائـع المؤتمر التاريخي

انطلقت أعمال الملتقى حول “التضامن التاريخي بين الشعبين الليبي والجزائري أبعاده” صبيحة يوم الثلاثاء 2 أبريل 2013 بقاعة المحاضرات بمركز المحفوظات والدراسات التاريخية وذلك بعد تلاوة آيات قرآنية والاستماع إلى النشيدين الوطنيين. ألقى السفير السيد عبد الحميد بوزاهر كلمة نوّه فيها بالعلاقات الليبية الجزائرية، وأكد على أهمية التعاون بين الباحثين الجزائريين والليبيين للكشف عن الصفحات المشرقة من سجل التواصل بين الجزائريين والليبيين والتضامن بينهم في السراء والضراء. وحضر مراسيم الجلسة الافتتاحية سفير الصين الشعبية وممثل عن السفارة التركية.

وقدم الدكتور محمد الطاهر الجراري محاضرة في الجلسة العلمية الأولى تناول فيها أهمية الأرشيف الليبي في كتابة تاريخ هذا البلد كتابة علمية محررة من كل أيديولوجية مهيمنة. وتحدث بعد ذلك الأستاذ عبد المجيد شيخي عن تجربة الجزائر في حفظ الأرشيف الوطني، وطموحاته في استرجاع كل ما نقلته السلطة الاستعمارية إلى فرنسا، وحرمت جراء ذلك شعبا كاملا من تاريخه المجيد وتراثه العريق.

شارك باحثان ليبيان من المركز وجامعة بنغازي في الجلسة العلمية الثانية. تحدث الدكتور صلاح الدين حسن السوري عن التنافس الليبي الجزائري في البحر الأبيض المتوسط خلال القرنين 18 و19. ودرس الدكتور عبد الله علي إبراهيم (جامعة بنغازي) مواقف إيالة طرابلس الغرب والجزائر من الأطماع الفرنسية بين 1798 و1830.

وفي الجلسة المسائية كشف الأستاذ سعيد علي محمد (المركز) عن طموحات حاكم مصر محمد علي في ضم ولاية طرابلس والجزائر. وتكلم الدكتور المولى صالح الحرير (جامعة بنغازي) عن محمد بن علي السنوسي ودوره في نشر العلم في ليبيا ثم بيّن مساندة السنوسيين للمقاومة الجزائرية.

وتطرق الدكتور أرويعي محمد القناوي (جامعة بنغازي) في صبيحة اليوم الثاني إلى مساندة الشيخ عبد الحميد بن باديس لحركة المقاومة الليبية للاحتلال الإيطالي بين 1911 و1939. كما تكلم الأستاذ عبد القادر عبد الله غوفة والسيد عادل الهادي المشيرقي عن أهم الأعمال التي قامت بها لجنة مناصرة الثورة الجزائرية.

وتحدث الدكتور عمار جحيدر (جامعة طرابلس) عن التواصل الثقافي بين ليبيا والجزائر من خلال أعلام ووثائق من العهد العثماني. أما كاتب هذه السطور فقد أبرز صفحات مشرقة من تضامن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين مع حركة المقاومة في ليبيا. وقد نشرت نص المحاضرة بعد عودتي إلى الجزائر في جريدة البصائر في 3 حلقات متتالية (الأعداد 647، 648، 649).

كما كلفت بمهمة شاقة وهي رئاسة الجلسة العلمية الأخيرة التي تحدث فيها كل من الأساتذة محمد الصالح الصديق ولمين بشيشي وعبد الرحمان شريف. تكلم الأول عن تجربته في مكتب جبهة التحرير الوطني بطرابلس أين كان يشرف على الإعلام وبرنامج صوت الجزائر بإذاعة طرابلس بينما تحدث الثاني والثالث عن ذكرياتهما في بنغازي أين مثّلا جبهة التحرير الوطني. وأبرز المتحدثون التجاوب الكبير الذي لمسوه من الشعب الليبي وحكومته والدعم الشامل واللامشروط من ملكه محمد إدريس السنوسي.

وتخلل الجلسات العلمية نقاش حر مفتوح، وكان فرسانه السيد السفير بوزاهر، والأستاذ حسين المزداوي الدبلوماسي والمثقف اللامع، والدكتور عيسى البجاحي أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة طرابلس. واختتمت أشغال الملتقى بتكريم مجموعة من المناضلين الليبيين الذين جاهدوا بإخلاص في سبيل تحرير الجزائر واستعادة سيادتها واستقلالها، وهم: عبد القادر عبد الله غوفة، إبراهيم الهادي المشيرقي، سليمان الصلابي، أحمد مبارك السوسي، أحمد راسم باكير،مهدي إبراهيم غربي، مبروك مسيك.

معرض للوثائق والصور النادرة

تنوعت الوثائق بين تاريخ المقاومة الليبية والعلاقات الجزائرية الليبية في الفترة الحديثة والمعاصرة. منها مراسلات بين الباشوات في الجزائر وليبيا وتونس من أجل الإتحاد والتعاون للتصدي معا للغارات الأوروبية.

كما عرضت وثائق خاصة بمحاكمة القائد المجاهد عمر المختار، ومنها محضر استجوابه من الأمن، ومحضر استماعه من طرف القاضي بالإضافة إلى التماسات النائب العام. وعرضت أيضا وثائق عن أضرار الاستعمار الايطالي في ليبيا بالصور والإحصائيات والرسومات البيانية، وهو عمل يدعم الإجراءات التي يتابعها الليبيون لتعترف إيطاليا بجرائمها في حقهم وتقدم لهم تعويضات معنوية ومالية. وهي عبرة لكل من يسعى وراء دولة استعمارية من أجل أن تعترف بجرائمها، فهي لا ترضخ إلا للأدلة الملموسة والوثائق الدامغة التي تفضحها أمام العلم والعالم، ولا تقيم وزنا للخطابات الرنانة والمواقف المترددة !

وبخصوص العلاقات الجزائرية الليبية، وجدت في المعرض مراسلة بتاريخ 26 جوان 1958 تتضمن تبرعات الطلبة الليبيين الموجودين في القاهرة لفائدة الثورة الجزائرية والتي تقدر قيمتها بواحد وستين جنيها وخمسين قرشا. وكذلك وجدت فيه تقريرا عن تبرعات الليبيين للهلال الأحمر الجزائري، وقصاصات من الصحافة الليبية تناولت موضوع الثورة الجزائرية.

وشاهدت خلال هذا المعرض مناضلين ليبيين يحملون معهم صورا تذكارية كثيرة تؤكد على الدعم الليبي للثورة الجزائرية. أذكر منها صورة نادرة لأحمد بن بله وهو يرتدي الزي الليبي التقليدي. وصورة أخرى للشاذلي بن جديد وهو يستقبل أحد قادة الجبهة المساندة للثورة الجزائرية في يوم 21 نوفمبر 1980. وكتب الرئيس الجزائري كلمة عليها بخط جميل جاء فيها: ” تحية التقدير للشعب الليبي الشقيق الذي لن ننسى أبدا مواقفه النبيلة مع الجزائر خاصة أثناء الثورة التحريرية الكبرى، وتمنياتي له بالرقي والازدهار.”

شـخصيات لـيبيـة

تعرفت خلال هذه الرحلة على عدد من الشخصيات الأدبية والتاريخية والطلبة المجتهدين والناس البسطاء الطيبين. ولا بأس أن أتوقف عند بعضهم. التقيت بالأستاذ إبراهيم الفقيه حسن الكاتب المعروف خلال الصالون الأدبي. ولد في مدينة طرابلس في عام 1932، ودرس القانون في جامعة الإسكندرية وتخرج منها في سنة 1959، ثم عاد إلى بلده وشغل عدة مناصب في الإدارة القانونية للمؤسسات العمومية. كما شارك في الحياة الفكرية محاضرا في المؤتمرات المحلية والدولية، ومحررا في الجرائد والدوريات العربية.

وقلت له مازحا في اللقاء الذي جمعنا في الصالون الأدبي: إنني لم أعرفك ذلك أنه علقت في ذاكرتي صورتك في مجلة الدوحة في بداية الثمانينات وأنت حامل للنظارات، أما الآن فقد استغنيت عنها مخالفا للعادة. وسألته عن أخبار مجلة الثقافة العربية التي كان يرأس تحريرها. وهي مجلة راقية كنت أشتريها في الثمانينات بدينارين أو ثلاثة فأقرأ مقالاتها النفيسة وأستمتع بصورها الجميلة. وغضبت من المشرفين عليها في تلك الفترة لأنني بعثت بثمن الاشتراك عن طريق البريد لكن المجلة لم تصلني أبدا، وهكذا لم أقرأ إلا أعدادها القليلة التي اقتنيتها من المكتبة المحلية.

وبينما كنت أتحدث مع الأستاذ الفقيه، أثار فضولي شيخ كبير جالسا في الصف الثاني. كان يلبس بذلة سوداء وقميصا أبيضا ورابطة عنق حمراء، وهو يتدفق حيوية ويتكلم مع أصدقائه بعربية فصحى جميلة. فسألت الدكتور الفقيه: من هو هذا الشيخ الفصيح؟ فقال إنه الأستاذ محمد علي المصراتي. فقلت له: هل تقصد مؤلف كتاب “تاريخ الصحافة في ليبيا”؟ قال: نعم.

والأستاذ المصراتيهو من أبرز المثقفين والمؤرخين الليبيين المعاصرين. ولد في مصراته سنة 1926. وعاش في الإسكندرية والقاهرة. درس في جامع الأزهر وحصل فيه على شهادة العالمية سنة 1946. عاد بعد ذلك إلى ليبيا فاشتغل بالسياسة والصحافة، وشغل منصب مدير الإذاعة الليبية ورئيس رابطة الكتاب والأدباء الليبيين.

وكان له نشاط دائب في الحياة الثقافية والفكرية فضلا عن كتاباته في الصحافة والتأليف في التراجم والأدب والتاريخ.ورغم كبر سنه فإنه ما زال يتمتع بحيوية الشباب وذاكرة قوية فكان من حين إلى آخر يعلق مباشرة على كلام المحاضرين في الصالون الأدبي أو المعقبين مصححا اسما أو مدققا لحدث أو ناقدا لمعلومة…الخ.

اقتربت منه وسلمت له نسخة من كتابي “عبد الحميد بن باديس مسار وأفكار” هدية تقدير وعرفان. شكرني على ذلك وقال لي أنه كتب عدة مقالات عن هذا المصلح الجزائري في جرائد ومجلات ليبية. ووعدني بأن يرسل لي نسخا منها مع نسخة من كتابه “تاريخ الصحافة في ليبيا” الذي ألححت كثيرا على مطالعته في طبعته الجديدة. وكتب اسمي وعنواني على نصف ورقة بيضاء بخط كبير مائلا يمينا ويسارا على طريقة الخطاطين، ولا أدري كيف يستطيع أن يفك رموز هذه الخربشة بعد زمن قصير !

لقد أردت أن أزور في هذه الرحلة باحثا ليبيا عرفته بعلمه ولم أسعد برؤيته. إنه الأستاذ عبد السلام الجفائري وهو من المهتمين بفكر مالك بن نبي. وقد تأسفت كثيرا عندما أخبرني الدكتور عمار محمد جحيدار بأنه توفي في يوم 27 ديسمبر 1997 عن عمر ناهز 61 سنة تاركا وراءه تراثا فكريا نشر معظمه في الجرائد والمجلات الليبية والعربية.

وقد درس الأستاذ الجفائري في رسالته لنيل شهادة الماجستير بجامعة طرابلس “مشكلات الحضارة عند مالك بن نبي”. ثم واصل بحثه في فكر بن نبي لتحضير رسالة الدكتوراه إلا أن الأجل قد وفاه قبل إتمامها. وأحسن المركز الليبي للمحفوظات والدراسات التاريخية حينما أصدر هذا العمل في عام 2009 في سلسلة السير والتراجم عنوانه: ” مالك بن نبي حياته وعصره.” ويقع هذا الكتاب في 376 صفحة وهو مبتور المقدمة والخاتمة. ويتضمن الكتاب 7 فصول منها: ” المصادر الفكرية لمالك بن نبي”، “مالك ونهضة اليابان” ، “مفاهيم أساسية في البناء الحضاري”.

وأنقل من هذا الكتاب (ص 313) فقرة تلخص أهمية الوعي الحضاري في مسيرة تطور الشعوب والمجتمعات كما فهمها الأستاذ الجفائري على ضوء قراءته لمالك بن نبي: ” إن مشكلة كل شعب عند مالك بن نبي في جوهرها هي مشكلة حضارته، و لا يمكن لشعب أن يفهم مشكلته ما لم يرتفع إلى مستوى الأحداث الإنسانية، وما لم يتعمق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها، لأن بناء الحضارة لا يتم عن طريق المصادفة بل يتطلب نظرة منهجية تعتمد على التحليل ومعرفة عوامل البناء.”

حقيبة ثقيلة بالكتب

لقد حرصت منذ أن دخلت إلى مركز الدراسات التاريخية والمحفوظات على التبادل العلمي بيني والباحثين الليبيين فأهديت مجموعة من كتبي إلى المكتبة، وطلبت دليل إصداراته من أجل التعرف على إنتاجه العلمي وانتقاء الكتب التي تشغل اهتماماتي للاطلاع عليها أو شرائها. والحق، إنني وجدت من الأستاذ علي عمر الهازل الباحث بهذه المؤسسة حسن المعاملة وتجاوبا لا نظير له. فأهدى إلي نسخة من دليل المنشورات الصادرة عن المركز بين 1978 و2010، وأبدى استعداد المركز لإهداء كل العناوين التي سأختارها.

وفي صبيحة الغد قدمت له قائمة من 12 كتابا من بين 500 عنوان حتى لا أحرجه، فأحضرها لي في وقت قصير. كما أهدى إليّ كتابه النفيس المعنون: ” النظام القضائي في ولاية طرابلس الغرب في العهد العثماني الثاني 1835-1879 م”. فتسلمت هذا الكنز الثمين وأنا من الشاكرين.

وأذكر من بين تلك الكتب العناوين التالية لعلها تفيد القراء المهتمين أو الباحثين الجادين: “التضامن العربي الإسلامي مع المقاومة الليبية ضد الغزو الليبي” للدكتور مصطفى حامد رحومة، “عمر المختار” لمجموعة باحثين إيطاليين، “الفكر الإصلاحي في ولاية طرابلس الغرب (1897-1911)” للأستاذة سعاد علي عمر،”الصحافة الأدبية في ليبيا (1869-1969)” للدكتور محمد صلاح الدين بن موسى، “مالك بن نبي حياته وعصره” للأستاذ محمد عبد السلام الجفائري، “جريدة المؤيد وقضايا المغرب الغرب العربي (1889-1915)” للأستاذ وليد الجراي…الخ.

وأهدى إليّالباحث المتميّزالدكتور عمار محمد جحيدار كتابه ” يوميات مغربية”، وهو توثيق لرحلته العلمية إلى المغرب الأقصى بين 24 ماي و19 جوان 1989. وأهديت بدوري كتبي إلى الأساتذة المهتمين بتاريخ الجزائر والفكر المعاصر خاصة وأنا متيقن أن حركة انتقال الكتب والمجلات بين الجزائر وليبيا بطيئة جدا، وتحتاج إلى همة كبيرة لتفعيلها من أجل أن تحقق الثقافة الوئام والتضامن بين الشعوب، فبالتثاقف نبني جسور الحوار والتعايش والتعاون المثمر.

 

حوار مجهول للأستاذ معاش مع صحافي ليبي

سلم لي صحافي ليبي حوارا أجراه مع سفير الجزائر في ليبيا في فترة السبعينات الأستاذ محمد الطاهر معاش. وهو حوار لم ينشر لأسباب لم أسأل عنها. وأجاب الأستاذ معاش على ثلاثة أسئلة، وأقطف منها ما يلي.

كان السؤال الأول عن العلاقات القائمة بين الجزائر وليبيا. فقال أنها: “متينة بمتانة الشعبين … ومتانة إيمانهما الراسخ بالأهداف المشتركة ووحدة المصير”. وتأكدت هذه الصداقة بالاتفاقيات المبرمة بين البلدين في الجزائر سنة 1963 وطرابلس في عام 1966. وتم بمقتضاها تبادل المنح الدراسية بين البلدين، فقدمت الجزائر 100 منحة للطلبة الليبيين للدراسة في الجزائر، واستقبلت ليبيا 200 طالبا جزائريا.

كما أجاب الأستاذ معاش عن الاتصالات الجارية بين قادة البلدين للتعاون في مجالات مختلفة وتعديل الاتفاقية بين البلدين لتحيينها وتفعيلها.

أما السؤال الثالث تناول القضية الفلسطينية وصلتها بالبلدين. وقال الأستاذ معاش: ” إن موقف إطلاق النار بعد كارثة 5 جوان هو خطأ تاريخي فادح يتحمل العرب مغبته ويستفيد العدو منه أكبر الاستفادة… وإذا نظرنا إلى الوضع من جديد وجدنا أنه يتطلب دائما المزيد من التكتل والمزيد من التضحية والبذل بالنفس والنفيس والعدول عن سياسة التراشق بالتهم واصطناع الأزمات والخلافات في البلاد العربية.”

والحق أن واقع العالم العربي والقضية الفلسطينية لا يختلف كثيرا عما وصفه هذا الدبلوماسي والمثقف الجزائري في نهاية الستينات من الماضي. هل هذا يعني أن العالم العربي مازال متأخرا عن الركب بسبب اختياراته المبهمة ومواقفه المترددة؟ إنه سؤال جدير بالنظر والتدبر.

 

جولة خفيفة في طرابلس

في يوم الخميس 4 أبريل قمنا بزيارة الوداع إلى الباحثين القائمين على المركز. فاستقبلنا المدير ومساعدوه كالأستاذ علي عمر الهازل والأستاذ حسن المجبري… وكانت فرصة لإبرام اتفاقيات تعاون بين هذه المؤسسة ممثلة في الدكتور الجراري والمركز الوطني للأرشيف ممثلا في الأستاذ عبد المجيد شيخي. وبمجرد إمضاء هذه الاتفاقية بحضور سعادة السفير، خرجت مع الأستاذ حسين المزداوي للتجول في مدينة طرابلس الجميلة بشوارعها الواسعة ومناظرها الخلابة وفنادقها الكثيرة ذات أشكال هندسية رائعة.

وأثار إعجابي فندق كبير بني على شكل قارورة مقلوبة فكان بحق تحفة معمارية تجذب الأنظار وتسحر الأبصار. ومررنا بساحة الشهداء الشهيرة التي زادتها البحيرة الصغيرة المجاورة جمالا وبهاء. ووجهت بصري إلى شرفة القلعة وأنا أستقدم صورة معمر القذافي الواقف عندها وهو يخاطب أنصاره أيام الثورة الشعبية الأخيرة. إنها لحظات حقيقية لم تخطر ببالي أن أعيشها في يوم من الأيام والثورة مازالت تبحث عن مخرج سليم يحقق الآمال المعلقة عليها.

وذهبنا بعد ذلك إلى باب العزيزية الحصن الحصين الذي حكم القذافي من وراء أسواره الدولة الليبية اثنين وأربعين عاما بالحديد والنار. كان المكان شاسعا جدا لكنه لا تظهر عليه أية علامات الثروة والترف، فالبنايات أو المحيط كان في غاية البساطة، فلا أثر للقصور أو الحدائق كما كنت أتصوره في مخيالي. ويشهد المكان على هول المعركة التي انتهت بانتصار الثوار، فأينما توجه بصرك تقابلك علامات الخراب والدمار. وصار جزء منه مفرغة للأوساخ بينما احتجز بعض الناس البنايات وحولوها إلى سكنات ومحلات تجارية محتشمة.

لقد خرجت من هذه القلعة المدمرة وأنا متأثرا جدا بهذه المناظر، وتعمقت قناعتي بقداسة التاريخ الذي تصنعه تضحيات الشعوب وتسقيه دماء الشهداء وعرق الرجال الأشداء ودموع الأطفال والنساء وحبر العلماء والأدباء والشعراء.

 

في طريق العودة إلى الوطن

كانت رحلة العودة إلى الجزائر مقررة في نفس اليوم على الساعة السادسة والنصف بعد الظهر. قصدنا دار السفير الذي أقام مأدبة الغذاء على شرف الأساتذة الجزائريين والليبيين، ودعا إليها السفراء العرب المعتمدين في ليبيا. وحضر فعلا سفراء المغرب وتونس ومصر والأردن واليمن وفلسطين وتركيا والجامعة العربية ومنظمة الوحدة الإفريقية. ولابد أن أشير هنا أن هذه هي المرة الثانية التي يستضيفنا فيها السفير الجزائري. فقد تناولنا العشاء في إقامته في أمسية اليوم الأول من رحلتنا، ودعا إليها إليها عددا من الإخوة الليبيين.

وكان الطعام لذيذا ومغذيا غير أنني تمنيت في كل مرة أن تكون الأطباق جزائرية حتى نعرّف غيرنا بثقافتنا الأصيلة والثرية والمتنوعة. وزادني العشاء الذي تناولناه يوم الأربعاء في قصر الدكتور الجراري الفسيح على شرف المشاركين في الملتقى العلمي صلابة في رأيي، فكانت الأكلة محلية تذوقتها لأول مرة، ولم أرها في بلد آخر رغم رحلاتي العديدة في أقطار عربية وأوروبية لأنها صنعة طرابلسية يعتز الليبيون بتقديمها إلى ضيوفهم الكرام.

وتكفل المسؤولون على التنظيم بكل إجراءات السفر وانتقلنا إلى المطار في الوقت المناسب غير أن الطائرة تأخرت ساعة عن الموعد فاغتنمنا الفرصة لمواصلة الحديث في القاعة الشرفية مع بعض الأساتذة اللبيبين الذين حرصوا على السهر على راحتنا ومرافقتنا إلى آخر لحظة. وافترق الجميع بعد إعلان وقت الركوب فكانت لحظة الوداع مؤثرة فتعانقنا، وتمنى بعضنا للبعض السلامة والأمان في البر والجو، واللقاء في فرص سعيدة أخرى بحول الله.

وعلى الساعة التاسعة ليلا حطت بنا الطائرة بمطار الجزائر الدولي سالمين غانمين، واللسان ينطق بحمد الله على التوفيق في هذه الرحلة المفيدة التي جمعتنا بإخواننا الجزائريين والليبيين في رحاب العلم والأخوة الصادقة والاحترام المتبادل.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى