الراحل مولود قاسم: ألق العبقرية وصدق الوطنية! /عبد الحميد عبدوس
هذه العبارة الموجزة المحكمة الحكيمة هي عينة من جواهر الكلام التي كان المفكر الأصيل والمثقف الموسوعي الأستاذ مولود قاسم نايت بلقاسم –رحمه الله- يرصع بها خطاباته ومحاضراته ومناقشاته وكتاباته التي تعتبر من النماذج الزاهية والراقية في فنون القول والكتابة للثقافة الجزائرية، بل وفي الإنتاج الفكري العربي المعاصر.
قبل بضعة أيام خلت كنت من بين الحاضرين في الملتقى الوطني الأول الذي نظمه المركز الثقافي الإسلامي لولاية الجزائر تحت شعار "أعلام الجزائر" خول شخصية ومآثر وآثار الأستاذ مولود قاسم، كان الملتقى ثريا بالمداخلات الفكرية والشهادات الحميمية التي ساهم بها نخبة من الأكاديميين والمثقفين وبعض أصدقاء فقيد الجزائر.
وقد كتب مدير المركز الثقافي الأستاذ عمر بافولولو كلمات زاخرة بالحماس والإشادة بالراحل في مقدمة الكتاب الصادر عن المركز الثقافي كفاتحة لسلسلة (أعلام الجزائر) تحت عنوان "مولود قاسم المفكر الموسوعي"، نقتطف منها ما يلي: "ما عرفنا عن المفكر الجزائري مولود قاسم نايت بلقاسم ذلك الطود الأشم إلا الخير، فهو فعلا جم العطاء، حي العاطفة، جميل السيرة، طاهر السريرة، مشرق الوجه، صادق الابتسامة، رمز التواضع، مثال البساطة، مدرسة التضحية، مشجع الإبداع، محفز الشباب، منبع الجود، غاية الإحسان، وقد شرح الله صدره وملأه حكمة وإيمانا وبرا وإحسانا، وقد كان بفضل الله لجزائرنا بل للعالم الإسلامي والمجتمع الدولي كالغيث جودا، والبحر كرما، وكالنسيم لطفا.."
لقد سخر الأستاذ مولود قاسم نايت بلقاسم جهده وجهاده وفكره وقلبه للجزائر فسمى باكورة إنتاجه الفكري "الجزائر" وطبعه باللغة الألمانية مكتب الجامعة العربية في ألمانيا في سنة 1957، وأيضا سمى فلذة كبده وكريمته الأثيرة إلى قلبه "الجزائر" كما كان محركا ومشجعا ومساهما مع الشاعر الجزائري الكبير المبدع مفدي زكريا في تأليف الملحمة الشعرية الخالدة "إلياذة الجزائر".
كان الأستاذ مولود قاسم دائما متيقظا ومستعدا للرد على أية إساءة تلحق بالجزائر مهما كان مصدرها وهكذا كان أول من استاء واحتج على تصريح الرئيس الفرنسي الأسبق فاليري جيسكار دسيتان عندما حل بمطار الجزائر في أول زيارة رسمية لرئيس فرنسي بعد استعادة الجزائر لسيادتها الوطنية، فقال يوم 10 أفريل1975: "فرنسا التاريخية تحيي الجزائر المستقلة"
وقال مولود قاسم بعد ذلك في محاضرة نشرت بمجلة الثقافة تعقيبا على إهانة جيسكار ديستان للجزائر: "معنى الأمم الفتية ليست صيغة مادحة بل هي قادحة.. بلد فتي بمعنى أكتشف أخيرا، لا تاريخ له، وشعب فتي كأنك الآن ولدت إلى الدنيا بينما دوغول يقول عن فرنسا: C est mon cher et vieux paysوجيسكارديستان عندما جاء إلى الجزائر قال: La FranceHistorique salue l'algerie indépendante
يهزأ بنا ويسخر وظنناها مدحا! ونشرت الصحف الجزائرية في صفحاتها الأولى هذه العبارة لجيسكاردسيتان.. مع انها سبة وشتيمة! فرنسا التي لها تاريخ عريق وأصالة وأثالة جاءت لتحيي هذا المولود الجديد ونحن نبرز هذا.. مفتخرين"!
وأيضا فإن مولود قاسم الوزير الكبير في حكومة هواري بومدين كان يتجول في الأسواق الشعبية بلا حراسة ويسوق سيارته المتواضعة بنفسه دون سائق أو المظاهر البروتوكولية التي يحرص زملاؤه من أعضاء الحكومة على إحاطة أنفسهم بها،وكان يجالس الطلبة ويرد عليهم في الملتقيات والمحاضرات، هذا الرجل المتواضع رفض النزول من الطائرة في مطار موسكو لأن من جاء لاستقباله في المطار من سلطات الاتحاد السوفياتي لم يكن في مرتبة وزير،وعليه أعتبر الراحل مولود قاسم ذلك التصرف بمثابة إهانة للجزائر، وذلك ما لا يقبله ولا يتساهل فيه مطلقا!
مولود قاسم الأمازيغي الشهم ابن قرية بلعيان بدائرة آقبو بولاية بجاية تلميذ الشيخ الفاضل محمد الطاهر آيت علجت، وتلميذ الشيخ العلامة محمد الصالح بن عتيق، كان حبه الأكبر اللغة العربية وكان الإسلام مجده الأعظم، وهو القائل: "إن الإسلام بالنسبة لنا أنفاس وجودنا وهواء حياتنا"!
قال لي ذات يوم انه شعر بحزن ومهانة لا توصف عندما كان في إحدى المناسبات يستقبل بصفته مستشارا برئاسة الجمهورية وفدا من الاتحاد السوفياتي، وكان المترجم المرافق للوفد الروسي يتولى الترجمة من الروسية إلى الفرنسية، وأضاف المرحوم مولود قاسم أنه احتج على المترجم قائلا له: بان الاتحاد السوفياتي يتوفر على أحسن المستعربين في العالم، فلماذا لا يتولى الترجمة من الروسية إلى العربية، وهو يرافق وفدا في زيارة رسمية لبلد عربي؟ وكان رد المترجم الروسي بمثابة المفاجأة التي هزت مشاعر الأستاذ مولود قاسم، إذ أجابه بأن اختيار اللغة الفرنسية كوسيلة للترجمة كان بطلب من مصالح الرئاسة الجزائرية!
أما الحادثة التي ظلت تحز في نفس الفقيد مولود قاسم وتجرح كبرياءه وتطعن آماله فهي حادثة إلغاء نظام التعليم الأصلي في الجزائر، وقد روى ذلك في منتصف الثمانينيات بمكتبه بمقر حزب جبهة التحرير الوطني الذي كان موجودا في مبنى الغرفة التجارية بساحة الشهداء، وكنت قد زرته بحكم مهنتي كمسؤول القسم الثقافي بجريدة "لشعب" الوطنية وبحكم علاقتي الطيبة به من خلال إشرافه على المجلس الأعلى للغة العربية فقال لي: إن من بين الشخصيات التي كانت تزوره في بيته الأستاذ مصطفى الأشرف وكان دائم الثناء على الانجازات التي حققها نظام التعليم الأصلي ويؤكد أن معاهد التعليم الأصلي قد أنقذت شباب الجزائر من الضياع التربوي والحرمان التعليمي، وهي توفر لهم فرصة جديدة لصقل معارفهم وتطوير مستوياتهم الدراسية وضمان مستقبلهم الشخصي والمساهمة في تنمية بلدهم… إلى آخر ذلك من الكلام المعسول، وكانت هذه الزيارات والمحادثات دافعا للأستاذ مولود قاسم لأن يتوسط عند الرئيس هواري بومدين من أجل تعيين الأستاذ مصطفى الأشرف في منصب رسمي، يمكنه من توظيف طاقاته الثقافية وقدراته الفكرية المتميزة في خدمة الدولة الجزائرية، حتى جاء اليوم الذي تم فيه تعيين مصطفى الأشرف في الطاقم الحكومي في منصب وزير التربية الوطنية سنة 1977، وهي السنة نفسها التي خرج فيها الأستاذ مولود قاسم من وزارة التعليم الأصلي والشؤون الدينية التي كانت موجودة لمدة سبع سنوات (من 1970إلى 1977م) وكان أول ما قام به الأستاذ مصطفى الأشرف هو الطلب من الرئيس بومدين اتخاذ قرار إلغاء التعليم الأصلي بحجة انه لا مبرر لوجود تعليم برأسين في الجزائر، أي تعليم عام، وتعليم أصلي، وقد استجاب الرئيس بومدين هواري بومدين بسرعة محيرة لهذا الطلب، وبجرة قلم تم إلغاء إنجاز تربوي كان مصطفى الأشرف من بين المشيدين به عندما كان خارج الحكومة، وشعر الأستاذ مولود قاسم أن الرئيس بومدين الذي كان يعتبر قائدا متبصرا ونافذا وصديقا مقربا يقاسمه المبادئ والأهداف والقناعات في بناء الجزائر قد عاقبه على النجاح وحرمه من مواصلة إنجاز فيه الخير للجزائر ولمستقبل أبنائها!
وأما النكسة الكبيرة والخيبة المميتة التي لحقت بالوطني المخلص والمناضل الصادق والمفكر الأصيل والمدافع الصلب عن مجد الجزائر وأصالتها ونهضتها القويمة الأستاذ مولود قاسم نايت بلقاسم فهي فضيحة تجميد قانون استعمال اللغة العربية الذي كان من المفروض أن يدخل حيز التنفيذ في 5جويلية 1992 في الذكرى الثلاثين لاسترجاع السيادة الوطنية ،بعد أن كان نواب المجلس الشعبي الوطني قد صادقوا عليه بالإجماع في 27 ديسمبر 1990 ووقعه الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد في 16 جانفي 1991 وأصدره في الجريدة الرسمية، رغم معارضة اللوبي الفرانكوفيلي والهستيريا الصاخبة التي قابل بها المسؤولون الفرنسيون ووسائل إعلام المستدمر السابق للجزائر كانت هي الرصاصة المسمومة التي وجهت من طرف السلطة الجزائرية إلى احد أهم مكونات الشخصية الوطنية ورموز السيادة الجزائرية، اللغة العربية بمثابة الصدمة التي عجلت بإيقاف نبض الحياة – رغم إيماننا الكامل بأن آجال العباد بيد الخالق سبحانه وتعالى لا تقدم ولا تؤخر إلا بمشيئة الله وقدره- في جسد كان يتدفق على امتداد حياته الزاخرة بالجهاد والعطاء بألق العبقرية وصدق الوطنية، فالتحق بحوار ربه يوم 27 أوت 1992 عن عمر ناهز 65 سنة، أي بعد أقل من شهرين من صدور مرسوم تجميد قانون استعمال اللغة العربية!