نحو حداثة إسلامية. بقلم: عبد القادر قلاتي.


ـ
لا يمكن لإشكالية الحداثة والتقدم في عالمنا العربي والإسلامي أن تخرج عن منطق الاستمرارية التاريخية لمشروع النهضة المعاصرة. هذا المنطق يعتبر أن الحاضر هو الغد الموصول بالماضي، وإذا كان ثمة تجاوز وإبداع فهو لا يتم إلا من خلال استيعاب واحترام هذه الاستمرارية التاريخية.
ـ
كيف يمكن قراءة التجربة التاريخية التي ابتدأت من القرن التاسع عشر وصولا إلى دولة الحداثة وإيديولوجية الحداثة دون أن تخضع هذه التجربة للنقد والمساءلة؟ فمنطق النقد هو الخطوة الأولى لفهم الوضع العربي الإسلامي الراهن تمهيداً للعمل على تغييره على أسس سليمة نعيد من خلالها التجربة ونحن أكثر قدرة على التغيير.
ـ
إن نظام الحداثة بشموليته التي غطت فعاليات المجتمع كله لا يمكن التعامل مع جزء من جزئياته أو مكون من مكوناته بالقول أن هذا النظام لو تخلى عن هذه الممارسة أو ذلك التطبيق لحقق المكتسبات الإيجابية دون السلبية، فأي حركة نحو التغيير في المجتمع والدولة والفكر لا يمكنها الفصل والتجزئة، فالتجارب دائماً فيها من السلبيات والإيجابيات معاً، لكن إذا كان الأمر يتعلق بتجربة خاطئة في مجملها وصادرة عن تجربة أخفقت كلياً، فليس هناك حديث عن السلبيات والإيجابيات ولكن عن نظام كامل خاطئ في قاعدة تشكله وأساس تكونه، إن منطق النقد هذا يفرض التكلم والكشف عن هذه الأسس والقواعد والأفكار والقوى التي لولا هيمنتها وسيادتها لما نتج هذا الإخفاق في هذه التجربة التاريخية الكبيرة، هذه القوى على اختلاف اتجاهاتها وتياراتها السياسية والاقتصادية تشترك إلى حد كبير في سلوكياتها إلى درجة تجعلها غريبة في أوطانها لا تستطيع التعاطي مع تراث وقيم وسلوكيات الأمة، فهي تعيش جسدياً في الغرب لكنها تعيش فكرياً وعاطفياً في أوطانها محتقرة كل ما هو قيميّ وسلوكيّ، فالاغتراب الثقافي الذي يتجلى لدى هذه القوى الإستراتيجية المسيطرة هو المسئول الأول عن ديمومة التخلف وغرسه عميقاً في مجتمعنا العربي والإسلامي.
ـ
إذا كان الوعي بمشروع النهضة الشاملة هو الهدف الأسمى لمجموع الأمة، فإن هذا الهدف يعني تحقيقاً للذات بالمعنى الحضاري أي أنه المشروع الذي يستند إلى مرجعية فكرية تعبر عن الذات وتعطي للخصوصية حضوراً أمام حداثة الآخر، في هذا السياق يقول الأستاذ أنور عبد الملك: إن تحديد مشروع حضاري يهدف إلى الإجابة عن إشكاليات المدينة الفاضلة والإنسان الكامل من رؤية عربية تجمع بين الخصوصية الأصيلة وبين الحياة المعاصرة في اتجاه مستقبلي متقدم، يتم عندما تتحقق قيم المجتمع والأمة وثقافتها الخاصة وتوازناتها المادية والروحية، كما يقول الأستاذ جلال أمين: فمن مصدر هذه الإرادة الحضارية لابد أن يكون غير مادي وأنه الاعتقاد بالتفوق على الغير أو على الأقل بالرغبة القوية في إثبات الذات وبأنها ليست أقل قدرا من الأمم الأخرى إنها الثقة بالقدرة على النهوض من جديد..لقد قدمت مفاهيم الحداثة فيما يخص مفهوم الدولة والأمة بعد الحقبة الاستعمارية أحلاماً ظلت تسيطر على الإنسان العربي الذي صدق النخب السياسية والمثقفة التي راحت تشحن له من الغرب المفاهيم الجاهزة والعلمية مثلها مثل البضائع المستوردة من الشرق حيناً ومن الغرب أحياناً أخرى، هذه النخب التي تبنت طوعاً الأيديولوجيات الحديثة عن الدولة والمجتمع والثقافة والعلم، فارتكبت العديد من الجرائم في الفكر والواقع باسم الحداثة المزعومة والموهومة، فكل موضة فكرية تصدر في الغرب كان لها عندنا من يتكفل بنقلها إلى مجتمعاتنا وهذا بعفوية وجهل في كثير من الأحيان وعن قصد وتصميم في كثير من الأحيان، لهذا نتج عن تجربة الحداثة واقع مسخ لا تخفي قبحه كل المساحيق التي يسبغها رجال الدولة ومثقفوها.
ـ
ليس المطلوب إلغاء الحداثة كمفهوم وكأيديولوجيا لكن المطلوب التحكم في مسارها وتطورها المفرط عندنا، إن الحداثة من موقع الغلبة السياسية الشاملة والحضارية لا يمكن أن تنشر وتعمم إلا الفتنة والتفسخ والتفكك، لقد خطت أمتنا خطوات كبيرة نحو الوعي بالآخر فلم يعد الأمر يحتاج إلى فترة أخرى حتى نختار بين أصالتنا وحداثة هذا الآخر بل الأمر يحتاج إلى خطة لحسم ثنائية الأصالة والمعاصرة حسماً فكرياً ومعرفياً وحضارياً.
ـ
هل يستطيع المجتمع العربي اليوم استيعاب الحداثة المعاصرة؟، أو هل يستطيع إبداع حداثة تعبر عن ذاته وانتمائه الحضاري؟ ثم هل الحداثة هي تجاوز الموروث نحو جديد ما؟؛ أي خلق واقع اجتماعي وثقافي وسياسي واقتصادي يكون صورة للمرحلة التاريخية التي يمر بها المجتمع في صور الانتقال من القديم إلى فضاء هذا الواقع الجديد؟، لا يمكن لأي قراءة نقدية أو تحليل فكري أن يحصر مسألة الحداثة والتقدم والنهضة وحتى التغيير في إطار الثقافة والمعرفة، فالحداثة التي نريدها هي التي تعبر عن الذات والتخلص من التبعية الفكرية التي تشكل المدخل الرئيسي للتخلص من التبعية السياسية والاقتصادية والحضارية التي ظلت تكبل الأمة بقيود من الأوهام الاستعمارية التي صنعت القابلية لهذه التبعية، إذا كنا نريد الاحتفاظ بمصطلح الحداثة علينا أن نخلصه من كل إيحاء بأن التغيير الذي نسميه حداثة هو دائم ومتواصل وبالضرورة نتغير نحو الأفضل، ليس القضية أن تكون مع أو ضد الحداثة إنما القضية أن نفهم أي حداثة نقصد ولصالح من تكون وفي أي اتجاه تسير.
ـ
إن الذين يجعلون من الحداثة خطاباً سحرياً ونظرية كونية يغضون الطرف على أصل المشكلات في ظل التبعية السياسية والاقتصادية والثقافية والعسكرية والتقنية وحتى الغذائية.
ـ
لقد أثبتت الوقائع التاريخية أن الأرضية الغربية التي سادت في بلادنا تحت شعار الحداثة لم تأت لتحقيق التقدم والتطور إلا على المستوى المادي ولا على المستوى الثقافي الفكري بل دحرت عوامل التقدم والرقي حين حطمت مصادر الاستقلالية في النسق المجتمعي الحضاري والتاريخي، إن الحل يطلب تغييراً جذرياً ونقداً لاذعاً للمفاهيم السائدة انطلاقاً من موقع الذات.
ـ