التاريخ، بين مناقب العظام وافتراءات اللئام..! / عبد الحميد عبدوس
ـ
في إطار الحرب الخفية والخبيثة التي يمكن تسميتها بحرب الوعي التاريخي الهادفة إلى تأزيم الشخصية الجزائرية وتهديم المرجعية الوطنية، يتعرض التاريخ الجزائري إلى حملات شيطانية من الداخل والخارج بالاعتماد على أخطر وسائل التضليل والتزييف، وتوظيف أحط أساليب التحقير،والتسفيه، والتشويه للرموز الوطنية المضيئة بغرض التهوين من إنجازاتها العظيمة والتزهيد في مآثرها التي تجاوزت الحدود الجغرافية والحقب التاريخية.
ـ
سنتناول،كعينة على ذلك، في هذه الوقفة التذكيرية، عبقريتين من نجوم التاريخ الوطني والإنساني: هما الأمير عبد القادر الجزائري، والعلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي –عليهما رحمة الله- وكلا الرجلين انتقلا إلى جوار ربهما في مثل هذا الشهر من التاريخ الميلادي، أي شهر ماي الجاري، ففي هذا الشهر تحل الذكرى الثلاثون بعد المائة لوفاة الأمير عبد القادر
( 26 ماي 1883)، والذكرى الثامنة والأربعون لوفاة العلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي (20ماي1965).
ـ
إذن 130 سنة مرت على وفاة أمير السيف والقلم، وعالم البرهان والعرفان، المجاهد الشاعر الفقيه السياسي الأمير عبد القادر بن محي الدين الجزائري الذي يمتد نسبه الشريف إلى آل بيت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فهو من مواليد قرية القيطنة بمعسكر في سنة 1808، استطاع أن يحمل لقب الحافظ في سن الرابعة عشرة مما أهله لإلقاء الدروس في مختلف المواد الفقهية، وأدى فريضة الحج إلى بيت الله الحرام في سن السابعة عشرة (1825) ثم بويع أميرا للجهاد في سن الرابعة والعشرين (1832).
ـ
قاد الجهاد الجزائري لمدة 17 سنة (1830إلى 1847) أمضى خمس سنوات كاملة في سجون العدو الفرنسي (1847إلى 1852). بعد خروجه من السجن والترحيل إلى تركيا، اختار الهجرة إلى دمشق ومكث فيها من سنة 1855 إلى تاريخ وفاته في سنة 1883.
ـ
كانت شهرته كزعيم سياسي وديني وشاعر أديب مرموق تملأ الآفاق، وازدادت سمعته تألقا ورفعة بعد موقفه الإنساني النبيل في حماية نصارى الشام بإنقاذه لأكثر من 15 ألف مسيحي قام بإسكانهم في منازله وإيوائهم في قلعة دمشق وتقديم الطعام والشراب لهم لمدة 15 يوما، وبهذا الصنيع لم يتمكن الأمير عبد القادر من إنقاذ حياة الآلاف من المسيحيين ووأد الفتنة التي نشبت في سنة 1860 بين المسلمين والمسيحيين فحسب، ولكنه أنقذ في الوقت نفسه مدينة بيروت التي كان 10 آلاف جندي فرنسي يبحرون في سفنهم لتدميرها انتقاما لنصارى الشام.
ـ
لقد حاولت المنظمة الماسونية العالمية استدراج الأمير عبد القادر إلى صفوفها بمنحه العديد من أوسمتها واعتبار ما قام به من إنقاذ لنصارى الشام يدخل في صميم المبادئ التي تدافع عنها المنظمة الماسونية، ولكن الأمير عبد القادر أكد لهم بأن ما قام به نابع من تعاليم دينه الإسلامي الذي يحرم الظلم والعدوان، ورغم افتراءات الأفاكين والمزورين والمستلبين فإن الأمير عبد القادر لم ينتم إلى الماسونية ولم يحضر أي اجتماع من اجتماعات أعضائها، لأن عقيدته الإسلامية كانت تعصمه من الانضمام إلى منظمة أصبحت لا تخفي ولائها للصهيونية العالمية.
ـ
اختار الأمير عبد القادر أن يدفن إلى جوار القطب الصوفي الشيخ ابن عربي بدمشق، ولكن الجزائر المستقلة استعادت رفات الأمير في سنة 1965، وتم دفنه بمقبرة الشهداء بالعالية –عليه رحمة الله- ومع ذلك ما زال هناك من يردد في أيامنا بأن الأمير عبد القادر كان ماسونيا وكان خائنا ورفض دعم ثورة الشيخ المقراني –رحمه الله- في سنة 1971!و مازالت الجزائر غبر قادرة أو غير راغبة في إنتاج فيلم سينمائي يكون في مستوى عظمة الأمير عبد القادر الجزائري، ويبقى دليلا مصورا ووثيقة فنية تاريخية ينشر في العالم أمجاد ومناقب شخصية جزائرية تعتبر من أعظم زعماء القرن التاسع عشر الميلادي!
ـ
وفي مقابل هذا التجني الأخرق والبهتان المبين في حق أحد مفاخر الجزائر وتاريخها الحافل، قامت الأمم المتحدة في سنة 2006 بتكريم ذكرى الأمير عبد القادر الجزائري من خلال تنظيم معرض خاص به في قصر الأمم بجنيف تحت شعار "الأمير عبد القادر الجزائري رائد القانون الإنساني، ومنشد الحوار بين الحضارات"
غير أن المآثر الإنسانية الراقية والأخلاق الإسلامية العالية لم تتألق في شخص الأمير عبد القادر الجزائري عند إنقاذه نصارى الشام في سنة 1860 فحسب، ولكنها تجلت في أروع مظاهرها بمعاملته للأسرى الفرنسيين الذين وقعوا في قبضته أثناء قيادته للجهاد ضد المحتل الفرنسي حتى أن المؤرخ البريطاني هنري تشرتشل قال عن هذا التصرف: "إن العناية الكريمة والعاطفة الرحيمة التي أبداها عبد القادر نحو الأسرى ليس لها مثيل في تاريخ الحروب".
ـ
أما النجم الثاني من نجوم العلم والجهاد في الجزائر فهو فارس البيان ومنور الأذهان، العلامة المجاهد الفقيه الأديب الشاعر الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، الذي توفي في 20 ماي 1965، ففي هذا الشهر تمر الذكرى الثامنة والأربعون لرحيله، وهو من مواليد قرية أولاد براهم بولاية برج بوعريريج في سنة 1889، أي أنه جاء على الدنيا بعد ست سنوات من وفاة رائد الجهاد الجزائري الأمير عبد القادر، هاجر إلى الحجاز سنة 1911، وهناك بالبقاع المقدسة وبالتحديد في المدينة المنورة بدأ يفكر في سنة 1913 مع صديقه الأثير ورفيق دربه العظيم، رائد النهضة الجزائرية المعاصرة الإمام الشيخ عبد الحميد بن باديس –عليهما رحمة الله- في تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين.
ـ
وبعدها انتقل إلى عاصمة الشام في سنة 1916 وأقام بها مدة أربع سنوات وكان من مؤسسي المجمع العلمي بدمشق.
ـ
عاد إلى الجزائر سنة 1920 وبدأ في نشر الدعوة الإصلاحية في مدينة سطيف. شارك بتميز في كل المراحل التحضيرية لتأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين لتكون أداة فعالة لإصلاح المجتمع وتحضيره للمهمة الكبرى في التخلص من نير الاحتلال الفرنسي وافتكاك حريته واستعادة استقلاله. فكان يعقد جلسات أسبوعية مع الإمام عبد الحميد بن باديس في سنة 1920 في كل من سطيف وقسنطينة.
ـ
وقام بوضع القانون الأساسي لجمعية "الإخاء العلمي" في سنة 1924 وساهم في النشاطات الثقافية والندوات الفكرية التي كانت تعقدها النخبة الجزائرية في العاصمة بعد تأسيس نادي الترقي سنة 1927،كما حضر الاجتماع الذي دعا إليه الإمام عبد الحميد بن باديس في سنة 1928 لجمع جهود الطلبة الجزائريين العائدين من الزيتونة والمشرق لتدارس أوضاع الجزائر، وكان هذا الاجتماع بمثابة الخطوة التمهيدية الحاسمة لتأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي خرجت إلى النور في نادي الترقي في 5 ماي 1931 بعد احتفال فرنسا الصاخب المفاخر بالذكرى المئوية لاحتلال الجزائر (1830-1930) وكان العلامة محمد البشير الإبراهيمي من المؤسسين البارزين والأعضاء القياديين في هذه الجمعية التاريخية المباركة التي أخرجت الشعب الجزائري من ظلمات الجهل وظلم الاستعمار إلى نور العلم ونعمة الاستقلال.
ـ
تولى رئاسة الجمعية بعد وفاة الإمام عبد الحميد بن باديس في أفريل 1940، وانتخب من قبل إخوانه العلماء رغم غيابه الجسدي عنهم حيث كان منفيا في مدينة آفلوا منذ سنة 1939 بسبب كتاباته المعادية للاحتلال الفرنسي.ولا شك أن إخوانه العلماء الذين حملوه شرف المسؤولية وعبأها كانوا يتذكرون كلام رئيسهم الإمام عبد الحميد بن باديس عندما سلم الإبراهيمي مفتاح مدرسة دار الحديث بتلمسان التي تم تدشينها في 27 سبتمبر 1937 وتحولت بفضل جهود العلامة الإبراهيمي إلى قلعة للعلم والإصلاح امتد إشعاعها إلى كل الجزائر: "أخي الأستاذ، لو علمت في القطر الجزائري، بل في العالم الإسلامي رجلا في مثل حالتكم له يد على العلم مثل يدكم، وفضل على الناشئة مثل فضلكم لآثرته دونكم بفتح هذه المدينة، ولكني لم أجد فباسم تلمسان وباسم الجمعية الدينية بالخصوص أناولكم المفتاح، فهل لهذه المدرسة أن تتشرف بذلك؟".
ـ
فكانت رئاسة العلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين مباركة ومثمرة، فقد أعاد- بعد توقف لثماني سنوات- بعث جريدة البصائر لسان حال جمعية العلماء في جويلية 1947، واستمرت في الصدور كإحدى أكبر وأهم الجرائد ليس في الجزائر فحسب، ولكن في كل العالم العربي والإسلامي إلى غاية سنة 1956. وقد أطلقت هيئة علماء المسلمين في العراق اسم البصائر على جريدتها المركزية ولسان حالها تيمنا وتقديرا لجريدة البصائر الجزائرية.
ـ
وأنشأ الإبراهيمي معهد عبد الحميد بن باديس في قسنطينة في سنة 1948 وجلب له خيرة الأساتذة والعلماء في الجزائر،وبفضل هذا الصرح التعليمي الجزائري تكون معظم الإطارات التربوية المعربة التي حملت على كاهلها مسؤولية النهوض بقطاع التربية والتعليم والشؤون الدينية والقضاء، بعد استرجاع الاستقلال الوطني، كما زود هذا المعهد الثورة الجزائرية بجنود وضباط مثقفين ومخلصين وملتزمين دينيا ووطنيا بواجب تحرير الجزائر.
ـ
وأشرف على تأسيس المئات من المدارس والمساجد الحرة في الجزائر، لمواجهة الحرب التجهيلية والتنصيرية للمحتل الفرنسي، وكان أول رئيس تنظيم جزائري معروف يعلن دعمه الصريح لانطلاق الثورة الجزائرية في 15نوفمبر1954، وأول خطيب جمعة في 2نوفمبر1962 بمسجد كتشاوة التاريخي الذي اغتصبه المحتلون الفرنسيون وحولوه إلى كنيسة لمدة 130 سنة كاملة.
ـ
وتحول بعد سفره إلى المشرق إلى سفير للثورة الجزائرية فوظف كل مواهبه الفكرية وشهرته الدينية والسياسية لحشد الدعم المادي والسياسي والدبلوماسي للقضية الجزائرية فزار الملوك والرؤساء والزعماء في العالم العربي والإسلامي وحشد رجال الفكر والادب ونظم اللقاءات وخطب في المهرجانات وكتب المقالات وحرر البيانات لنصرة الكفاح الجزائري، ويعترف قادة الفكر والثقافة والدعوة في العالم الإسلامي بكونه أحد أكبر القمم الثقافية والدينية في العالمي الإسلامي، إذ يقول عنه قائد الصحوة الإسلامية الشيخ محمد الغزالي –رحمه الله- :"كان لقاؤنا بالشيخ البشير الإبراهيمي مصدر متعة أدبية وعلمية، تجعل أدباء القاهرة وعلماءها يهرعون إليه ويتزاحمون عليه".
ـ
رغم هذا المجد التاريخي والفخر الوطني الذي سطرته هاتان العبقريتان الجزائريتان: أي الأمير عبد القادر الجزائري والعلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي في صفحات التاريخ الجزائري والإنساني مازال بعض السفهاء والحاقدين والمستلبين يحالون تلويث سمعتهما الناصعة والحط من قدرهما الموفور بالهمز واللمز وحتى باللعن والطعن رغم أنهما رفعا عاليا سمعة الجزائر وذكرها بين ألأمم وفي أوقات خطيرة و عصيبة لا يصمد فيها ولا يبرز فيها إلا عظماء الرجال، ولا يضحي فيها إلا المجاهدون المخلصون من الأبطال.
ـ