مع ألغاز "الطلسم" السوري/بقلم الدّكتور عبد الرزّاق قسّوم
تالله، لقد أدخلتنا المحنة السورية الدامية الممتدة الأمد، في مغارات ودهاليز مظلمة ذات دروب حالكة السواد، أطفئت فيها الشموع، وانعدمت فيها القناديل، فلا كوة يدخل
منها الضوء، ولا فتحة يتسرب منها أي خيط للشمس.
لقد حُكم علينا، أن نعيش المشهد السوري فوق أرض مبللة بالدماء والدموع، ومع شعب يعيش الأرق والعرق. إن حالنا مع المأساة السورية كحال أهل الكهف اختلفت عليهم الأزمنة، وفقدوا كل صلة بالواقع، مع الفارق معهم، أن السوريين لا هم أيقاظ، فيمكن التحاور معهم، ولا هم رقود، فينعمون براحة النوم.
هذه، إذن هي الطلاسم بألغازها كما تفرزها لنا المعاناة السورية، فيعجز السياسيون العقلاء الحكماء، عن فك ألغازها، وحتى المنجمون والمشعوذون الأشقياء عن قراءة آفاق مستقبلها.
لقد كنا نظن، و-إن بعض الظن إثم- أن الانتفاضة السورية لا تعدو أن تكون فصلا من فصول مشهد ما يعرف بالربيع العربي، لا يلبث أن يتخذ أحد حلول هذا الربيع العربي. قد يكون الحل المثالي وهو الحل التونسي، فتجنب البلاد والعباد، مأساة الدم والدمار. وقد يكون حلا على الطريقة اليمنية، فتجسد الإرادة الشعبية، بأقل الأضرار الممكنة. وقد ينحو المنحى المصري، فيعز الله من يشاء، ويذل من يشاء، ولكن ستخرج –في النهاية- الإرادة الشعبية هي المنتصرة والعزيزة. وفي أسوأ الأحوال، ستعرف المحنة السورية حلا على الطريقة الليبية، وعلى ما فيها من فضائع، وتضحيات، فقد اختزلت الزمن، ووضعت حدا للمحن، وخرج الشعب الليبي كما أراد، حرا طليقا.
غير أن التجربة السورية، استعصت على كل أنواع الحلول، بمختلف مرارتها، وقسوتها، وها هي تزرع الموت والدمار في كل مدينة، وفي كل ريف، وفي كل دار. تلك هي ألغاز "الطلسم" السوري الذي عجزنا عن فك ألغازه، وما أكثرها.
إن اللغز الأول في المأساة السورية هو الرئيس بشار الأسد، أين يمكن تصنيفه، من المسرحية الدامية الجارية فصولها؟ هل هو الحاكم العادل الذي يريد حماية شعبه، وإنقاذه من التخريب، والهدم، والدمار؟ وأنى يكون ذلك ممكنا، ونحن نرى الجيش السوري النظامي، هو الذي يقلب الديار على ساكنيها، فيعتقل بالشبهة، ويعذب بمجرد التهمة، ويغتصب بدافع الثأر والنقمة؟
اللغز الثاني من الطلسم السوري هو المعارضة السورية المسلحة. هل هي المعبرة عن الإرادة الشعبية حقا؟ فكيف نعلل انشقاقاتها، وتفرقها شيعا وأحزابا؟ ثم هل هي إسلامية الاتجاه، أم علمانية المنهج، أم ديمقراطية المذهب، أم ماذا؟ إنها تتسع لكل ذلك، ونزيد أنها ترتكب أحيانا فضائع، لا تختلف فيه، عما تتهم به الجيش النظامي السوري. فما حقيقة هذه المعارضة إذن؟
اللغز الثالث في الطلسم السوري، هو التدخل الأجنبي في المعركة. فهذا الغرب ومن يشايعه من الدول العربية يغدق على المعارضة السورية المال والسلاح، ويدعمها بكل أنواع الدعم لإسقاط النظام، وفي المقابل نجد السند الروسي، والإيراني، والمقاومة اللبنانية ممثلة في حزب الله، كلها، تقف إلى جانب النظام السوري، مقدمة له كل أنواع الدعم المادي والسياسي، من أجل إفشال مقاومة المعارضة السورية؟
إنها حقا معادلة يصعب فكها، وطلاسم يعجز الجميع عن قراءة ألغازها. فمن المستفيد، إذن، ومن الخاسر من هذه المحنة الدموية، التي طال ليلها على الشعب السوري الأبي؟
إن المستفيد الأول، ولاشك، هم أعداء سوريا، وفي مقدمتهم الكيان الصهيوني، الذي صار يعربد في الساحة بعد أن خَلا له وجه سوريا، فأصبح يثخن جسدها الهش بغاراته وصفاراته، فيزيد من ترويع الشعب السوري الذي صار لسان حاله "فكيف وصلت أنت من الزحام؟"، ولا شك أن الخاسر الأكبر، هو الشعب السوري الأبي، ومعه شعبه العربي في كل مكان، فكل قطرة دم تراق، وكل سوري يقتل، وكل بيت أو مصلى يهدم، إن هو إلا زرع للحزن والأسى في البيت السوري، وإضعاف لطاقة سوريا على أكثر من صعيد.
وما هو الحل؟ وكيف الخروج من النفق المظلم؟
لو كان لي من الأمر شيء، لسقت ممثلي النظام وممثلي المعارضة بالقوة إلى طاولة الحوار، وطوقتهم بكل قوة وحكمت عليهم، بعدم الخروج من بيت الحوار، إلا بالحل الأمثل، الذي يمسح من عيون البؤساء الدموع، ويضيء في قلوب الحيارى والبائسين الشموع، فيزرع من جديد الأمل، ويعلن عن بداية مرحلة العمل.
إن العلماء، والعقلاء، والنبلاء، والأقوياء، والضعفاء، مع حفظ الألقاب مدعوون كلهم، إلى تخييب أمل الطامعين والطامحين بغير حق، في إضعاف سوريا، وإخراجها من موقعها العربي، فيرسموا من جديد، حلا سوري المبنى، والمعنى، يختلف تماما، عن كل الحلول التي انتهت إليها فصول الربيع العربي، فيكون الحل المثالي للحكام والمحكومين، والذي من شأنه أن يحقق مطالب الجماهير الشعبية التواقة إلى العدل والحرية، فيسود الاستقرار، ويعم البناء والإعمار، ويومئذ يفرح السوريون، والمؤمنون بنصر الله.