مصرف السلام الجزائر .. خدمات بنكية أصيلة
تحاليل وآراء

سيادة القانون..وقداسة الأمم. / بقلم: الأستاذ الدكتور محمد عبد النبي.


images (2)
ـ
حين يزيح الرائد عن نفسه هالة التقديس، ولا يستثني نفسه من الخضوع للقوانين التي يُعمل بها: يكون قد باشر الخطوات الأولى في التأسيس لمجتمع مستقر، لا يحس فيه أحد بالغبن أو التمييز، وأحسب أن هذا الإنجاز هو الذي مكّن الغربيين من الوصول إلى مجتمع المواطنة الحقيقية، التي تذوب فيها الفوارق التي يصطنعها الكبراء والأغنياء، باعتبار أن الغنى أو السلطة هي التي تخصهم بميزة التنصل من الخضوع للقوانين المعمول بها، فسيادة القانون لا يفلت من سطوتها أحد، مهما كان موقعه أو سلطته أو ماله.
ـ
أخرج ابن ماجه (7/ 269) عن أبي سعيد الخدري قال:
"جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يتقاضاه دينا كان عليه، فاشتد عليه حتى قال له: أحرج عليك إلا قضيتني، فانتهره أصحابه وقالوا: ويحك تدري من تكلّم؟ قال إني أطلب حقي!فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هلا مع صاحب الحق كنتم؟ ثم أرسل إلى خولة بنت قيس فقال لها: إن كان عندك تمر فأقرضينا حتى يأتينا تمرنا فنقضيك، فقالت: نعم بأبي أنت يا رسول الله، فأقرضته فقضى الأعرابي وأطعمه، فقال: أوفيت أوفى الله لك، فقال-أي رسول الله- أولئك خيار الناس، إنه لا قدست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع"(أي دون أن يصيبه أذى أو ضرر).
ـ
وأخرج البيهقي في السنن الكبرى(6/95)عن ابن بريدة عن أبيه قال لما قدم جعفر بن أبى طالب من أرض الحبشة لقيه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:
أخبرني بأعجب شيء رأيته بأرض الحبشة، قال: مرت امرأة على رأسها مكتل فيه طعام، فمر بها رجل على فرس فأصابها فرمى به، فجعلت أنظر إليها-وهى تعيده (أي الطعام) في مكتلها- وهى تقول: ويل لك يوم يضع الملك كرسيه، فيأخذ للمظلوم من الظالم، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، فقال: كيف تُقدّس أمة لا تأخذ لضعيفها من شديدها حقه وهو غير متعتع؟!وقد صحح الحديثين الشيح الألباني في صحيح الترغيب  والترهيب (2/170) وفي ظلال الجنة (1/315) والحديث روي أيضا عن صحابة آخرين.
ـ
حين يكون الرائد الذي يوجه الناس إلى عدم استثنائه من القوانين التي تُسنّ هو النبي نفسه ندرك أهمية الحديث بروايتيه، و دقة هذا الأمر تتمثل في أن موقع النبوة يبوئ صاحبه مكانة خاصة، تدفع الأتباع بحب و شغف إلى حماية الرمز، واستثنائه مما يُخيّل إليهم أنه مساس بالموقع وصاحبه.
ـ
وبالرغم من ذلك يصر الرمز على بشريته التي تعني أنه قد يخطئ: "إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إليّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذ، فإنما أقطع له قطعة من النار" صحيح البخاري (21/ 307)
ـ
وفي مجال الخضوع للأحكام وعدم استثنائه بأي شكل من الأشكال يقول-في الحديث الذي عرضنا له من قبل و فيه شفاعة أسامة للمخزومية حتى لا تُحدّ-:
"…أتشفع في حد من حدود الله؟ ثم قام فخطب قال: يا أيها الناس إنما ضل من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم سرقت لقطع محمد يدها" (صحيح البخاري:21/49).
ـ

مفهوم جديد للقداسة أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم قبل أربعة عشر قرنا من الزمان، يوم كان ملوك الفرس و الرومان يُعامَلون معاملة الآلهة، فليست القداسة للأشخاص مهما علت مراتبهم، ولكنها للقيم العليا والفضائل الكبرى، النبي العربي الذي ابتُعث في الصحراء لبَدو لا يجيدون سوى الاقتتال فيما بينهم، يوجههم إلى ضرورة المطالبة بحقوقهم ممن يسوسهم أو يقودهم، حتى ولو كان نبيا مرسلا.
ـ
عبارة"ويحك تدري مَن تكلم"؟ لا تزال تُشهر إلى يوم الناس هذا، لإفهام المناقِش أو المحتج على مكانة من يُناقَش أو يُعترض عليه، مع فرق وحيد، هو أن الذي قالوها قديما كانوا بَدْوا يحمون موقع النبوة بحب، وأما من يقولها اليوم فلحماية مسؤول "متحضر" صغير، قد لا يملك شهادة جامعية معتبرة.
ـ
لا يكتفي النبي صلى الله عليه وسلم بالوقوف إلى جانب المُطالب بحقه، بل يحثّ أصحابه ومن يأتي بعدهم إلى ضرورة مساندة صاحب الحق:
"هلا مع صاحب الحق كنتم"؟ثم يزكيهم تزكية مطلقة فيقول: "أولئك خيار الناس"، ثم يسحب الغطاء عن كل أنواع القداسة المدّعاةعدا قداسة واحدة فيقول:" إنه لا قُدّست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع".
ـ
يَسرنا أن يأتينا المستخفّون بتراثنا بنص في قوة هذا النص"البدوي" من تراث الحضارات المختلفة في زمان الرسالة، و هي النصوص التي لم ترتكز عليها التجارب اللاحقة في تراثنا الفكري، أو أهملتها، فقلّدت الأمم الأخرى في إضفاء هالة التقديس على الأشخاص، ولا نزال إلى اليوم نعاني من فراغ كبير في هذا الجانب، في الوقت الذي نفضت فيه الأمم الأخرى غبار التخلف، وطوّرت أنظمة سياسية على أساس نظرياتٍ مختلفة للفكر البشري، و أفضى بها التطوير إلى إحراز سبق لا يُنكر، في مجال الحقوق، غدا به المواطن الغربي في منأى عن كل عنت أو ضيم يلحقه، جراء مطالبته بحقه، فغدا بحق أقرب منا إلى المنطق النبوي الشريف.
ـ
 
 

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى