
إن الأموال التي استهلكت منذ أكثر من عشرية والتي فاقت 600 مليار دولار لم يتم استغلالها استغلالا عقلانيا يتوافق مع الحاجات الملحة للاقتصاد الوطني، ومنه تلك الحاجات الأساسية التي يطلبها المجتمع خاصة في مجال الصناعات الغذائية والدوائية، أي تطوير قطاع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة بما يسهم في إحلال الواردات حتى لا يظل اقتصادنا تابعا للخارج في كل صغيرة وكبيرة ، يضاف إلى ذلك التضخيم المبالغ فيه في تكلفة إنجاز المشاريع، فالطريق السيار مثلا بدأ بتكلفة 5 مليار دولار والآن أصبحت تكلفته أكثر من 20 مليار دولار، والكل يرى ويدرك أن المشروع يعاد في العديد من أجزائه للمرة الرابعة (مثل قطعة البليدة شفة، بعد نفق الأخضرية…. ) وهذا يدل على رداءة وسوء إنجاز ومتابعة هذا المشروع.
ـ
حتى المستشفيات التي أنجزناها كانت عبارة عن بنايات شكل دون مضمون ومنها مستشفى وهران وغيره من المستشفيات التي أنجزت في جنوب الجزائر والتي لم تقلل من تنقل المواطنين للعلاج في العاصمة، بل ما زالت معاناتهم تزداد يوما بعد يوم، والكارثة أن الناس تموت من أمراض عادية نتيجة الاهمال.
ـ
ثم إذا نظرنا إلى مشروع ( التّـرامـواي ) الذي يعتبر كارثة في مجال النقل في العاصمة التي كانت تعرف اكتظاظا رهيبا قبل هذا المشروع ــ الذي زاد من ضيق شوارع العاصمة بشكل خطير جداــ كان يمكن أن نتبنى فكرة الترامواي في جسر معلق دون أن نضطر لتضييق الشوارع التي كانت في الأصل ضيقة، و لو فكّرنا في التكلفة المضخمة الخاصّـة بـهـذا المشروع الذي أُعـطِـي لشركةٍ كانت قَـد أَشـهَـرَتْ إفـلاسَها لَعَـلِـمْـنَا أنَّـنا كُـنَّا قادرين على أن نُـفاوِض مِن أجل تَـكـلُـفَـةِ أَقَـلّ، أو نترك المنافسة الشفافة للمؤسسات العالمية المتطورة عوض مؤسسة مُـفْـلِـسَـة؛ وقد زرت ماليزيا عدة مرات ولديهم هذا النوع من النقل لكنه على الجسور المعلقة (وبدون سائق) عوض تضييق الخناق على المدن الكبرى.
ـ
يضاف إلى ذلك مشاريع السكن التي تمت في أوساط مكتظة بالسكان وكان يفترض أن نستغل تلك الأموال لإنشاء مدن جديدة عوض عمارات لحشر آلاف المواطنين في مساحة صغيرة سببت الكثير من المشاكل الاجتماعية وساهمت في انتشار الجريمة فكانت هذه العمارات جريمة في حق مجتمع لم يَـتَـعَـوَّد على السكن الجماعي الخالي من المعايـير العالمية للسَّـكـنات الحضارية التي تليق بالبشر.
ـ
وعليه فإننا نقول إن الإشكالية ليست فقط في غياب العقلانية في المشاريع الكبرى التي تبنتها الدولة وإنما الفساد الذي رافق هذه المشاريع، ونحن نقرأ كل يوم عن ملفات الفساد التي كنا نشم رائحتها النتنة دون أن تكون لدينا الأدلة، لذا لا تَـتَـعَـجَّـبُـوا من ملفات الفساد الكثيرة التي ستخرج رائحتها خلال الأشهر القادمة.
ـ
حتى الجامع الأعظم الذي كنت من قدم دراسة أقنعت الرئيس والحكومة بهذا المشروع الضخم، فالمشروع لم يكن مشروع مسجد فقط وإنما مركب وقفي كامل متكامل، يحتوي على ما يلي:
ـ
مسجد، فندق، مستشفى متخصص، مركز أعمال، ورشات للحرف التقليدية، مطاعم، حديقة، مكتبة ضخمة، متاحف، مركز ثقافي إسلامي، مرأب سيارات، معهد عالي للدراسات الاسلامية، مراكز بحوث في العلوم الدقيقة، علما أن دراستي تَـحَـدَّثَـت عن تَـكْـلُـفَـة قَـدرُها 10,4 مليار دينار وأنني وضعت له خطة لجمع التبرعات من كل المواطنين بل إصدار أسهم وقفا لله تعالى، ليكون وقف الجزائريين جميعا كمسجد يَـعَـبِّـر عن جزائر الاستقلال، ولكنني تفاحأت عندما تبنى الرئيس تمويله بالكامل من ميزانية الدولة، بل تفاجأت عندما شرع في مناقصة خاصة بمكتب الدراسات المرافق، ومناقصة للدراسة الهندسية للمشروع، ومناقصة لمؤسسة الإنجاز، وكانت تصلني أصداء غير رسمية لمحللين لوضعنا السياسي يقول بأن الصينيين هم من سيأخذون المشروع، ثم نسمع بشركة لها سوابق عدلية في بلدها وفي العالم تأخذ المناقصة لإنجاز مسجد جزائر الاستـقلال الذي كان يفترض أن يبنى بأيد جزائرية، ولو بإشراف أجنبي، لكن اليد العاملة والحرفية كان يفترض أن تكون جزائرية، فهل يعقل أن يبنيه البوذيون عبدة الحجارة والأوثان؟، ثم هل سيتباهى الجزائريون بمسجد يؤرخ لاستقلالهم لم يساهموا في بنائه؟.
ـ
ثم هل يعقل أن مسجدا يكلف ما يقارب ملياري دولار في حين نجد مشاريع عالمية أفضل منه مثل مسجد الشيخ زايد الذي كلف 463 مليون دولار وهو ثالث مسجد بعد الحرمين الشريفين من حيث المساحة (41 ألف متر مربع). وعليه نحن نرى أن التكلفة الخاصة بمسجد الجزائر ضخمة ومبالغ فيها ومن الواجب فتح تحقيق معمق خاصة بعد فضائح الملفات الفاسدة التي كان فيها أطراف تم إزاحتهم من مراكز اتخاذ القرار وتورطو في ملفات فساد.
ـ
لذا أقول أن المشروع في نسخته الأصلية التي قدّمتُها يستجيب للحاجات الضرورية للمجتمع ومن بينها الصحة لكن بالشكل الذي هو عليه الآن حيث أنقصوا منه العديد من الوحدات الهامة من بينها المستشفى والفندق ورأينا أن أحدهم أعطي قطعة ضخمة في جهة مقابلة للمسجد وأنشأ أكبر مركز تجاري كان يفترض أن يكون من وحدات المسجد.
ـ
إنَّ ما يُـقالُ عن القطاعات الأخرى التي نَخَـرَ الفسادُ في جسدها يمكن أن ينطبق بشكل كبير على هذا القطاع الذي استهلك آلاف المليارات دون أن يكون لذلك أثر على تحسن صورة الجزائر، فمازلنا نَـحْـتَـلُّ الرُّتَـبَ المتأخرة في الدول الأكثر فساداً في العالم، وما زالت إداراتنا منفِّرة للاستثمارات الأجنبية بل أن المنظمة العالمية للتجارة ترفض انضمامنا إليها لأننا من أفسد الاقتصادات في العالم ، وعليه فَـالإستثمار في الثقافة إذا لم يكن له أثر على المجتمع في تغيير ثقافته في التعامل مع الأجنبي وتحويله إلى مجتمع راق في أخلاقه وثقافته ومعاملته ، فإنّ النفقات التي أنفقت على المهرجانات الثقافية المحلية والعالمية ما هي إلا بالوعةٌ تبتلع أموال الخزينة، وإلا كيف نفسر أن تنفق ولاية من الولايات على إقامة الولاية ما تجاوز 150 مليون دولار ونفس الولاية تستهلك 20 مليار دولار في حين نجد ولايات تعيش الفقر المدقع.
ـ
إن الإنـفاق على الـثــقـافـة أمـر ضـروري لكن عـنـدما يكون لها أثـر إيـجابي على المجـتمع وأن يكون الإنـفاق على الثـقافة الملموسة التي لـها مـردود اقـتصادي أيـضاً ولــيس الكـرنـفـالات التي لا تــنفع المجــتمع.
ـ
لقد ضاعت أموال طائلة نتيجة فساد لم يَـستَـثْـنِ حتى قطاع الثقافة الذي عجز أن يُنتج لنا على الأقل فيلما تاريخيا يروي مقاومة الأمير عبد القادر الجزائري، أو فيلما عن مقاومة لالا فاطمة نسومر، أو فيلما عن مقاومة أحمد باي، أو عن عبد الحميد بن باديس وغيرهم من أعلام الجزائر التي لها حقٌّ علينا بتخليدها بعمل فنّيّ على الأقـلّ ،عوضاً من أن نُـنـفـقها على مهرجانات خاوية مستهلكة للمال العام يزول أثرُها بعد انـتهائها.
ـ
لذا نقول أنّ ما أُنْـفِـقَ على ما يُـشبه الثقافة كان يُمكن أن يُوفِّـرَ مناصبَ شُغلٍ بمئات الآلاف لأبـنائنا وبناتـنا، وكان يُـمكن أَن يُـخرجَ الآلافَ مِنَ العائلاتِ مِـنْ دائرةِ الفـقـر، لكن ماذا نَـنْـتَـظِـرُ مِن ثـقـافـة تَـعـيش في وسـط الفاسـديـن، حَـتـماً ستُـنْـتِـجُ أيَّ شَـيءٍ إلاَّ شَـيـئاً اسمُه ُالثّـقافـة.
ـ
خبير دولي في الاقتصاد الإسلامي
أستاذ محاضر بجامعة سعد دحلب البليدة.