الفكر النهضوي والمرجعية الإسلامية. / عبد القادر قلاّتي .

تَـمـيَّـز فِـكْـرُ النّـهضة والتّـجـديـد في القـرن التَّـاسع عـشر بَـدْأً " بالطّـهطاوي" في مصر، و " حمدان خوجة " في الجزائر، مُرورا بـالأفغاني وعبده ورشـيد رضا، ثُـمّ بالتجربة الرّائدة لجمعـيّة العلماء في الجزائر بقيادة رائدها الكبـير الشيخ عبد الحميد بن باديس، بالاتّـجاه نحو القول بالعودة إلى الدّيـن بعـد تخليصه ممّا أحاط به في قرون الركود من معتقدات وعادات ليست مطابقة لحقيقته. فقد كانوا جميعاً يشتركون في القول بضرورة الرجوع إلى السلف، أي الدِّيـن الصافي الخالي من كل الترسّبات التاريخية التي تعمل على إبعاد الدِّيـن عن أهدافه السامية. لم ينشأ الفكر الإصلاحي بعيداً عن أساسيات الدين بل قام على أساس الدِّيـن، أي "دعوى لوضع الإسلام الاجتماعي في مستوى الإسلام المعياري، أي ما ينبغي أن يكون عليه المجتمع الإسلامي" حسب تعبير الباحث المغربي "علي أومليل " فالإسلام تحقق في ماضي المسلمين، وينبغي العـودة إليه لتحقـيقه في المستـقبل. وبالّـتالي هو المـعيار الذي تقاس به حال المسلمين وتعرف به أسباب تأخرهم عن غيرهم. لقد كان فكر الإصلاح يسعى– كَـما قال أومليل- إلى إزالة الانـفِـصام بَـين "الإسلام المعياري والإسلام الاجتماعي" أي جعل المسلمين يعيشون في حياتهم اليومية وفقاً لمبادئ الإسلام المعياري "النموذج الذي حقق النهضة في التاريخ" وإبعاد كل فكر نشأ في مرحلة الركود الحضاري الذي عاشته الأمة لأنه يكون قد أضاف إلى الإسلام ما ليس منه.
ـ
انطلق الفكر الإصلاحي لدى رواده الأوائل من وعي بخلل ذاتي حل بمجتمع إسلامي فأوجب التصحيح بمنطق إسلامي صرف. فالأساس في الإصلاح أو التغيير يجب أن يكون من داخل المجتمع الإسلامي دون أن يحيل على ما هو خارج الإسلام. لقد طرح في زمن الإمام "محمد عبده" سؤال حول انكسار الحضارة في العالم الإسلامي، وحول تأخر المسلمين ومدى مساهمة الدين في هذا التأخر، فكان جواب الإمام "محمد عبده" واضحاً عن هذا السؤال بوصفه عائقاً لها وأن ترك العمل به كان عاملاً من عوامل التراجع الذي عرفته الحضارة الإسلامية، وإن العودة إليه والتمسك به سيكون عاملاً من عوامل النهضة.
ـ
لقد كان الفكر الإصلاحي يرى أن سبب تأخر المسلمين يرجع إلى الإسلام الاجتماعي (حَـسبَ تعبير أومليل)، وليس إلى الإسلام المعياري "الذي تحقق في التاريخ وكان النموذج بالنسبة لرجال النهضة". وبالتالي فإن التمهيد لنهضة العالم الإسلامي واستعادته لمكانته ودوره الحضاري هو العودة إلى الدين، العودة إلى جوهر العقيدة الإسلامية الصافية التي يرى الإمام "محمد عبده" أنها المقدمة لبلوغ الغاية المقصودة وهي الانبعاث الإسلامي أو النهضة الإسلامية التي كانت عنوان ذلك العصر. ففي رسالة التوحيد للإمام "محمد عبده" يتسائل عن دور العقيدة فينفي عنها أن تكون عاملاً من عوامل تراجع الحضارة الإسلامية ويرد ذلك إلى المسلمين وتركهم لعقيدتهم وقد أكد هذا المعنى عندما تساءل عن حال المسلمين في ضوء ما يدعوهم إليه القرآن من قيم ومعايير للسلوك اليومي وللبناء الحضاري للمجتمع.
ـ
لقد ميّـز الإمام "محمد عبده" بين الإسلام كَــدِيـن وبين الحال التي عليها المسلمون ونجدُه يتساءل عن الأسباب التي قادت المسلمين إلى أن يكونوا في هذه المرحلة التاريخية على حال من التخلف والركود البادية مظاهرها في حياتهم فهو يتساءل: "إذا كان الإسلام أول دين خاطب العقل ودعاه إلى النظر في الأكوان وأطلق له العنان يجول في ضمائرها بما يسعه الإمكان، ولم يشـتـرط عليه في ذلك سوى المحافظة على عقد الإيمان، فما بالُهم كانوا قَـنَـعُـوا بالـيَـسِـير، والكَـثـير منهم أغلقَ على نفسه باب العِـلمِ ظـنّاً منه أنّـه قـد يرضى الله بالجهل، وإغـفال النَّـظـر فيما أبدع من مُحكم الصُّـنع؟. ما بالُهم وقد كانوا رُسلَ المحبة أصبحوا اليوم يتمنَّونها ولا يجدونها؟ ما بالهم بعد أن كانوا قُـدوةً في الجِــدِّ والعَـمَـلِ أصبحوا مَـثَـلاً في القُـعُـود والكَـسَـل؟ ما هذا الذي ألحَـقَ المسلمون بدينهم وكتابُ الله بَـيْـنَـهُـمْ يُـقِـيمُ مِـيزَانَ القِـسْـطِ عَـلَى مَا بَـيَّـنْـت. فما بالُـه اليومَ على رأي القـومِ تَـقْـصُـرُ دُونَ الوُصولِ إلَـيهِ يَـدُ المُـتَـناوِلِ؟ إذا كان الإسلامُ يَـدعُـو إلى البصيرة فـيه، فَـمَا بالُ قرَّاءِ القُـرآن لا يَـقْـرؤونَـه إلاَّ تغَـنِّـياً، ورجالُ العِـلْـمِ بالـدِّيـن لا يَعـرِفُـه أَغْـلَـبُـهُـم إلاَّ تَـظْـنـيـناً؟ إذا كان الإسلامُ مَـنَـحَ العَـقْـلَ والإرادةَ شَـرَفَ الاسـتِـقْـلاَلَ، فَـمَا بالُهُـم شَـدُّوهُـما إلى أغـلالٍ – أيُّ أغـلال؟ إذا كان الإسـلامُ قَـد أقَـامَ قَـواعِـدَ العَـدلِ، فَـمَا بـالُ أغْـلَبِ حُـكَّامِـهِـم يَـضْـرِبُ بِـهِ المَـثَـل فـي الظُّـلْـم". فمن خلال هذه الكلمات التي عَـبَّـر فيها الإمام "محمد عبده"عن فكره وعن مشروعه في التَّـغيـير نُـدرك مـدى البعد الإسلامي "الدينيّ" في الفكر الإصلاحيّ. فهو من أول لحظة لم يستبعد الدِّيـن كمعامل حضاري، بل حـسـم الأمرَ لصالح نـزْعَـةٍ تَـوفـيـقـيّة (مزاوجة) بين الدِّيـن كـمُستـند مرجعي والثّـقافة الجديدة التي صاحبت الحضارة الغربية في أول اصطدام لها بالشرق، وغَـدت هذه النذـزعة الصّـفة البارزة في الفكر الإصلاحي الحديث، الذي كان مضطرًّا نحو الاندفاع لصياغة هذه الصّـفة الّتوفـيقـيّة. والحق أنَّ هذه النَّـزعة التَّـوفيقية لم تأت من فراغ، فـقد كانت الفلسفة التوفـيقية حَـجَـرَ الأساس فيما شهدته الحضارة العربية الإسلامية مِـن فِـكـرٍ كـلاِمِـيّ وفـلـسَـفِـيّ، ولَــوْ أســـقَـطــنا هـــذه الجهود التوفيقية من التراث الفكري للعرب والمسلمين لفقد هذا التراث أهم ركائزه وأخصب عطاءاته.
ـ