غير مصنف
الشيخ الإبراهيمي و منهج التجـديد في الجـزائر / بقلم : الأستاذة سلسـبـيـل
كان الشيخ الإبراهيمي – مع ابن باديس – كالشعلة التي بثت في الجـزائر ثـورتها الثقـافية تلك الثورة التي مكنت الشعـب الجزائري من نيل استقلاله عام 1962م بعد 130سنة من الاستلاب، كما مكـنته من استرجاع هـويته العربية الإسلامية التي ما فـتئ يكافح من أجلها ابتداء من مقاومة عبد القادر ومرورا بثـورات الشيخ بوعـمامة والمقـراني وانتهاء بثورة 1954.
ـ
وكانت مهمة رجال الإصلاح من المهام الشاقة الكبرى، يقول الشيخ الإبراهيمي بأنّ فكرة إنشاء جمعية العلماء (التي لم تتأسس إلا في 1931) أخذت في الحقيقة تبرز مند عام 1913 في المدينة المنورة، وذلك أثناء سهـراته الطويلة مع الشيخ ابن باديس التي لم تكن تنتهي إلا مع صلاة الصبح، وقد تحدد موقفهما آنـذاك برفـضهما للأفكار التي دعا إليها في تـركيا (ضياء جـو كلاب) وطبقها من بعده ببضع سنوات كمال أتاتورك الذي اختلط عليه الأمر بين (العصرنة)modernisation ، و (الغـربنة) occidentalisation ، وبذلك أفقد الإسلام جانبه الروحي بتقليد الغرب تقليدا أعمى.
ـ
كما أنهما رفضا موقف الجامدين على النصوص، والذين يقـرأون القـرآن بعـيون لا تبصر، فمن المعـروف أن البرنامج الرسمي للدروس في جامع الزيتونة لم يكن إلى غـاية 1912 يتضمن من الـتفاسير إلا تفسير البيضاوي (الذي مات في 1316م) وتفسير الجـلالين (توفي أحـدهما في 1459 وتوفي الآخر – وهـو تلميذه في 1505).
ـ
إن هـؤلاء المفسرين مهما كان تقديرنا واحترامنا لهم فمن الخـطورة بمكان أن يعـتقد المرء بأن الفكر الإسلامي المبدع توقف وانتهى بوفاتهم، وأن ذاك التراث الذي يرجع إلى القرون الوسطى يمكن أن يحل مشاكل عـصرنا خاصة إذا عـرفنا أن (القـانون الأساسي) لجامع الزيتونة رفع هذه القاعـدة إلى منزلة المبادئ المقـدسة إذ جاء فيه بأنه : "لا يجـوز لأحد أن يعيد النظر في المبادئ التي تناقـلها العلماء من عـصر إلى عـصر وأصبحت من التراث العـلمي".
ـ
تلك إذن هي الظروف التي دعت الشيخ ابن باديس والشيخ الإبراهيمي إلى محاربة الداء الوبيل بنوعيه : التقليد الأعمى للماضي والتقليد الأعـمى للغـرب.
ـ
وقـد كتب الشيخ الإبراهيمي يقـول: "بأن أسوأ ما وقع فيه دعاة الثـقافة الغربية من عـيوب هو الجهل المطبق بحـقائق الإسلام وأن أسوأ ما وقع فيه أنصار الثـقافة الإسلامية هو الجهل المطبق بمشاكل العـصر ومستلزماته".
ـ
وإذا نظرنا إلى المسألة من منظور الإسلام الذي وحـد بين العـقائد الشرعـية والقوانين الوضعية واعتبرها كيانا موحدا لا ينفصم، فإن المشكلة الكبرى تتمثل في الاهتداء إلى طريقة يمكن بها للإسلام أن (يتعـصرن) من غـير أن ينسلخ عـن مقـوماته الذاتية أي من غـير أن يقـلد الغـرب.
أما الحل الذي اقترحه الشيخ ابن باديس والشيخ الإبراهيمي هو السير في الطريق الذي اخـتطه محـمد عـبده ورشيد رضا في مصر، ولكن مع مراعـاة الظروف الخـاصة بالجزائر التي تواجه الاستعمار مواجهة مباشرة.
ـ
ومن أجل بلوغ هـذا الهدف لابد من تـنقية كتاب الله وسنة رسول الله مما علق بهما على يد بعض المفـسرين من الشوائب التي تراكمت عـبر قـرون من التزمت والنظرة الضيقة والحـرفية الجامدة في فهم الشريعـة الإسلامية.
ـ
ولم يكن في هـذا العمل أي غـرض للمساس بالقرآن ككتاب منزل ولا بالسنة الشريفة، بل على العكس لأن المقصود هو الرجوع إلى الأصل بكل ما يزخـر به من حيوية.
ـ
إن الفضل الكبير الذي يعترف به الجميع للشيخ ابن باذيس والشيخ الإبراهيمي، ومن قبلهم الأفغاني ومحمد عـبده ورشيد رضا، هـو أنهم استطاعـوا أن يتجـاوزوا المجادلات في عـلم الكلام وما تراكم عـبر العصور من خلافات في التـفسير والأحـكام الشرعـية وأن يرجعـوا إلى الأصل الذي انطلقت منه الدعـوة إلى الوحي القـرآني وسنة رسول الله وأن يفعـلوا مثل الفقـهاء الكبار من قبـلهم عـندما تصدوا في تلك الظروف التاريخية الجـديدة للعـمل من أجل بلوغ الأهـداف الخـالدة التي حـددها لنا كتـاب الله.
ـ
فالقوانين الوضعية لا يمكن أن تبقى جـامدة لأنها ما وجـدت إلا لكي تنظم شؤون الحياة كما أراد الله لها أن تكون بعـد ما جعـل من الإنسان خليـفته في الأرض ولا يجـوز أن تبقى على حالة واحـدة لأن الحياة متغيرة باستمرار.
ـ
وقد كتب المفكر العظيم محـمد إقبال مؤيدا التجـديد الذي دعا إليه أمثال رشيد رضا وابن باديس والبشير الإبراهيمي كتب يـقـول: ( أرى بأن إقـدام الجيل الجديد من رجال الإصلاح المسلمين على تأويل أصول الفقه حـسب خـبرتهم الخـاصة وحـسب ظروف الحياة العصرية المختلفة أرى أن عـملهم هذا له ما يبرِّره، فالـقرآن يعـلّمنا بأن الحياة إنما هي مجـرى لا ينقطع في الخـلق والإبداع ويترتب على هذا أن كل جيل إذ يتخـذ آثار الأولين موضوعا للاسترشاد والإقـدام لا للتراجع والإحجام من حق هذا الجيل أن يتولى إيجاد الحلول لمشاكله الخاصة ).
ـ
إن الشيخ ابن باديس في قسنطينة والشيخ العـقبي في الجزائر والشيخ الإبراهيمي في وهـران وتلمسان لم يكـتفوا بالترداد حـرفيا للأحكام الشرعـية التي وضعت لظروف تاريخية معـينة بل تعـمقوا فيها وأدركوا مغـزاها وهـديها السماوي فـتوصلوا إلى نفس النتيجة في ظروف تاريخية جديدة وبذلك استطاعوا أن يعـملوا جيلا بأكمله : إنه الجيل الذي وجد في هـذا الإسلام الحي التي مكنته من أن يهب ويتجـند لتحـرير الجزائر، فالمشكلة إذن ما كانت لتطرح على بساط البحث في مخـتلف أبعـادها إلا على ضوء الإسلام، وذلك أن الثورة الجـزائرية لا يجوز أن يقتصر هـدفها على تعـويض الطغـمة الاستعمارية الحاكمة بثلة جـزائرية تمارس السلطة بمقتضى نفس القـوانين السابقـة…لقـد أصبح المقصود هـو إيجاد مجتمع جـديد مرتـكز على قيم مخالفة تماما للقيم التي فـرضتها سلطة الاحتلال الفـرنسي طيلة 130 (مئة وثلاثين سنة) وتلك القيم هي القيم الإسلامية الأصيلة.
ـ
على أن هـذا العمل يستلزم تغيير الرجال مثلما يستلزم تغيير الأسس التي يرتكز عليها المجتمع، والقرآن يذكر الثوريين المزيفين الذين يريدون تغيير كل شيء وينسون أن نفـوسهم بالذات في حاجة إلى تغـيير، يـذكرهم بقوله عزّ و جلّ { إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ }.
ـ
إنّ الرجال الذين تعـاونوا في 1931 مع الشيخ ابن باديس والشيخ الإبراهيمي على تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجـزائريين كانوا يؤمنون بهـذه الحـقيقة القرآنية، فأعـطوا الأولوية في برنامجهم لبذل جهود مكثفة في مجال التربية، فحاربوا التعليم الاستعماري الهادف إلى تحطيم مقـومات الشخصية وقـطع الطفل الجزائري عـن الثـقافـية العربية الإسلامية، وحاربوا كذلك العـقلية الخـرافية ((المرابطة)) تلك العـقلية التي– بما فـيها من خرافات و ((شفاعـات)) – تنافي الإسلام (ولذلك شجـعها الاستعـمار)، كما حـاربوا التعـليم البائد الذي أوقع الإسلام في الجمود وأبقاه منحطا وجعله عقيما باقتصاره على اجترار علوم الأولين.
ـ
وهكذا فالمشكلة تتمثل في الاهتداء إلى طريقة يمكن بها تفادي الوقوع في المحـظورين: الحذو حذو النمودج الغربي على غـير البصيرة من أجل التطور والتعليم…أو الرفض المطلق لكل ما لا ينتمي إلى التراث القديم.
ـ
إذا كان لرجال الإصلاح من فـضل فهو أنهم أدركوا بأنه لا فائدة من الجـدال حـول التعـارض بين العلم والدين ولذلك دعـوا إلى إدخال عـلوم الغرب وتقـنياته بعـد نقـدها وفـرزها واتخـاذهـا كوسائل لخـدمة أهداف الإسلام.
ـ
إن الشريعـة التي تتميز بالدعـوة إلى نمط من الحياة يقوم على أداء المؤمن لما أمر الله به هـذه الشريعة لا تعني إطلاقا الجمود والتقـيد بنفس الأحـكام والقوانين التي نظمت شؤون المسلمين تنظيما حسنا منذ عشرة قرون بل على العـكس تعني بذل الجهود المثمرة من أجل تغيير المجـتمعات المعاصرة في ظروف تاريخية جـديدة تماما وهي ظروف وأحـوال تستلزم مبادرات وطرائق جـديدة وفق ما جاء في الرسالة المحمدية الخالدة، فالإسلام إذ يـدعـو إلى ((ذكر الله والتأمل في مغـزى الحياة واستخلاص العـبر من التاريخ إنما هـو قادر اليوم -بعد ما أخـذت الأوضاع في العالم تتردى لا بسبب نقص الوسائل بل بسبب الافـتقار إلى هـدف محـدد –هذا الإسلام قادر اليوم على السعي بالمجتمع البشري في الاتجاه الذي يجعله يعمل لتحـقيق ما أمر به الله للناس من خير )).
ـ
ولم يخفى على سلطات الاحتلال ما في هـذه الدعـوة من خطر على كيانها فـعمدت في شهر مارس 1940 إلى نفي الشيخ الإبراهيمي وأبقته رهـن الإقامة الجبـرية، وكان الشيخ على تلك الحال عندما اخـتير على إثر وفاة الشيخ ابن باديس رئيسا لجمعية العـلماء، وعندما أفـرجت عنه السلطات الاستعـمارية في بداية عام 1943 استطاع في عام واحـد أن ينشئ 73 مدرسة في المدن والقرى و400 مدرسة خلال السنوات الموالية، ثم ألقي عـليه القبض بعـد المجازر التي ارتكبتها سلطات الاحتلال في 1945 ولكن الشيخ الإبراهيمي عاد إلى نشاطه التربوي فور الإفـراج عنه.
ـ
وهـكذا عـندما نتصور الإسلام بمثل هـذا التصور الحي، فإن كلمة الله تصبح قـوة تخلق المعـجزات فصرخة ((الله أكبر)) المدوية عبر القرون أعطت لما يكسبه الإنسان في هـذه الدنيا من سلطة أو من مال أو من علم أعـطت له قيمة نسبية لا يتجـاوزها والمسلم إذا قال ((الله أكبر)) معناه أنه لا يرضى بالخـضوع إلا لله وحده.
ـ
وهذا الخضوع لا يعني المذلة والخنوع بل يعني الاستجابة لكلمة الله ((لبيك اللهم لبيك)) وهي استجـابة فعالة مبدعـة ومسئولة : فالإنسان باعـتباره ((خـليفة الله في الأرض)) هو المخـلوق الوحـيد الذي في إمكانه أن لا يطيع أوامر الله، وهـذه القدرة الخـطيرة على العـصيان التي بسببها سجـدت الملائكة لله رب العالمين تجـعل الإنسان مسئولا تماما عـن وقائع التاريخ.
ـ
ونحـن اليوم إذا نعـترف للشيخ الإبراهـيمي و للشيخ ابن باديس بما لهما من فضل عـلينا بإرشادنا إلى قـراءة القـرآن قـراءة جـديدة كـكتاب حي قـادر على أن يـوجه أنظارنا إلى مستقبل جـديد لابد لنا أيضا أن نتـذكر ما قاله جـويسgaures :
((الوفاء لمنزل الأجـداد لا يعني الاحـتفاظ بما بقي فيه من رماد بل يعـني إحـياء ما بقي فـيه من جـدوة)).
ـ
ما أتمناه من جـريدة البصائر أن تمد جـذور عمل المشايخ والعـلماء رحمهم الله إلى آخر الحـدود بل إلى حيث لا حـدود عـندما تقـرأ وتتصفح لا تجـد ما تقول أشياء تحـس ولا توصف بل لا تفسر.
* بــقـلم : الأســـتاذة سـلسبيل
ـ
وكانت مهمة رجال الإصلاح من المهام الشاقة الكبرى، يقول الشيخ الإبراهيمي بأنّ فكرة إنشاء جمعية العلماء (التي لم تتأسس إلا في 1931) أخذت في الحقيقة تبرز مند عام 1913 في المدينة المنورة، وذلك أثناء سهـراته الطويلة مع الشيخ ابن باديس التي لم تكن تنتهي إلا مع صلاة الصبح، وقد تحدد موقفهما آنـذاك برفـضهما للأفكار التي دعا إليها في تـركيا (ضياء جـو كلاب) وطبقها من بعده ببضع سنوات كمال أتاتورك الذي اختلط عليه الأمر بين (العصرنة)modernisation ، و (الغـربنة) occidentalisation ، وبذلك أفقد الإسلام جانبه الروحي بتقليد الغرب تقليدا أعمى.
ـ
كما أنهما رفضا موقف الجامدين على النصوص، والذين يقـرأون القـرآن بعـيون لا تبصر، فمن المعـروف أن البرنامج الرسمي للدروس في جامع الزيتونة لم يكن إلى غـاية 1912 يتضمن من الـتفاسير إلا تفسير البيضاوي (الذي مات في 1316م) وتفسير الجـلالين (توفي أحـدهما في 1459 وتوفي الآخر – وهـو تلميذه في 1505).
ـ
إن هـؤلاء المفسرين مهما كان تقديرنا واحترامنا لهم فمن الخـطورة بمكان أن يعـتقد المرء بأن الفكر الإسلامي المبدع توقف وانتهى بوفاتهم، وأن ذاك التراث الذي يرجع إلى القرون الوسطى يمكن أن يحل مشاكل عـصرنا خاصة إذا عـرفنا أن (القـانون الأساسي) لجامع الزيتونة رفع هذه القاعـدة إلى منزلة المبادئ المقـدسة إذ جاء فيه بأنه : "لا يجـوز لأحد أن يعيد النظر في المبادئ التي تناقـلها العلماء من عـصر إلى عـصر وأصبحت من التراث العـلمي".
ـ
تلك إذن هي الظروف التي دعت الشيخ ابن باديس والشيخ الإبراهيمي إلى محاربة الداء الوبيل بنوعيه : التقليد الأعمى للماضي والتقليد الأعـمى للغـرب.
ـ
وقـد كتب الشيخ الإبراهيمي يقـول: "بأن أسوأ ما وقع فيه دعاة الثـقافة الغربية من عـيوب هو الجهل المطبق بحـقائق الإسلام وأن أسوأ ما وقع فيه أنصار الثـقافة الإسلامية هو الجهل المطبق بمشاكل العـصر ومستلزماته".
ـ
وإذا نظرنا إلى المسألة من منظور الإسلام الذي وحـد بين العـقائد الشرعـية والقوانين الوضعية واعتبرها كيانا موحدا لا ينفصم، فإن المشكلة الكبرى تتمثل في الاهتداء إلى طريقة يمكن بها للإسلام أن (يتعـصرن) من غـير أن ينسلخ عـن مقـوماته الذاتية أي من غـير أن يقـلد الغـرب.
أما الحل الذي اقترحه الشيخ ابن باديس والشيخ الإبراهيمي هو السير في الطريق الذي اخـتطه محـمد عـبده ورشيد رضا في مصر، ولكن مع مراعـاة الظروف الخـاصة بالجزائر التي تواجه الاستعمار مواجهة مباشرة.
ـ
ومن أجل بلوغ هـذا الهدف لابد من تـنقية كتاب الله وسنة رسول الله مما علق بهما على يد بعض المفـسرين من الشوائب التي تراكمت عـبر قـرون من التزمت والنظرة الضيقة والحـرفية الجامدة في فهم الشريعـة الإسلامية.
ـ
ولم يكن في هـذا العمل أي غـرض للمساس بالقرآن ككتاب منزل ولا بالسنة الشريفة، بل على العكس لأن المقصود هو الرجوع إلى الأصل بكل ما يزخـر به من حيوية.
ـ
إن الفضل الكبير الذي يعترف به الجميع للشيخ ابن باذيس والشيخ الإبراهيمي، ومن قبلهم الأفغاني ومحمد عـبده ورشيد رضا، هـو أنهم استطاعـوا أن يتجـاوزوا المجادلات في عـلم الكلام وما تراكم عـبر العصور من خلافات في التـفسير والأحـكام الشرعـية وأن يرجعـوا إلى الأصل الذي انطلقت منه الدعـوة إلى الوحي القـرآني وسنة رسول الله وأن يفعـلوا مثل الفقـهاء الكبار من قبـلهم عـندما تصدوا في تلك الظروف التاريخية الجـديدة للعـمل من أجل بلوغ الأهـداف الخـالدة التي حـددها لنا كتـاب الله.
ـ
فالقوانين الوضعية لا يمكن أن تبقى جـامدة لأنها ما وجـدت إلا لكي تنظم شؤون الحياة كما أراد الله لها أن تكون بعـد ما جعـل من الإنسان خليـفته في الأرض ولا يجـوز أن تبقى على حالة واحـدة لأن الحياة متغيرة باستمرار.
ـ
وقد كتب المفكر العظيم محـمد إقبال مؤيدا التجـديد الذي دعا إليه أمثال رشيد رضا وابن باديس والبشير الإبراهيمي كتب يـقـول: ( أرى بأن إقـدام الجيل الجديد من رجال الإصلاح المسلمين على تأويل أصول الفقه حـسب خـبرتهم الخـاصة وحـسب ظروف الحياة العصرية المختلفة أرى أن عـملهم هذا له ما يبرِّره، فالـقرآن يعـلّمنا بأن الحياة إنما هي مجـرى لا ينقطع في الخـلق والإبداع ويترتب على هذا أن كل جيل إذ يتخـذ آثار الأولين موضوعا للاسترشاد والإقـدام لا للتراجع والإحجام من حق هذا الجيل أن يتولى إيجاد الحلول لمشاكله الخاصة ).
ـ
إن الشيخ ابن باديس في قسنطينة والشيخ العـقبي في الجزائر والشيخ الإبراهيمي في وهـران وتلمسان لم يكـتفوا بالترداد حـرفيا للأحكام الشرعـية التي وضعت لظروف تاريخية معـينة بل تعـمقوا فيها وأدركوا مغـزاها وهـديها السماوي فـتوصلوا إلى نفس النتيجة في ظروف تاريخية جديدة وبذلك استطاعوا أن يعـملوا جيلا بأكمله : إنه الجيل الذي وجد في هـذا الإسلام الحي التي مكنته من أن يهب ويتجـند لتحـرير الجزائر، فالمشكلة إذن ما كانت لتطرح على بساط البحث في مخـتلف أبعـادها إلا على ضوء الإسلام، وذلك أن الثورة الجـزائرية لا يجوز أن يقتصر هـدفها على تعـويض الطغـمة الاستعمارية الحاكمة بثلة جـزائرية تمارس السلطة بمقتضى نفس القـوانين السابقـة…لقـد أصبح المقصود هـو إيجاد مجتمع جـديد مرتـكز على قيم مخالفة تماما للقيم التي فـرضتها سلطة الاحتلال الفـرنسي طيلة 130 (مئة وثلاثين سنة) وتلك القيم هي القيم الإسلامية الأصيلة.
ـ
على أن هـذا العمل يستلزم تغيير الرجال مثلما يستلزم تغيير الأسس التي يرتكز عليها المجتمع، والقرآن يذكر الثوريين المزيفين الذين يريدون تغيير كل شيء وينسون أن نفـوسهم بالذات في حاجة إلى تغـيير، يـذكرهم بقوله عزّ و جلّ { إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ }.
ـ
إنّ الرجال الذين تعـاونوا في 1931 مع الشيخ ابن باديس والشيخ الإبراهيمي على تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجـزائريين كانوا يؤمنون بهـذه الحـقيقة القرآنية، فأعـطوا الأولوية في برنامجهم لبذل جهود مكثفة في مجال التربية، فحاربوا التعليم الاستعماري الهادف إلى تحطيم مقـومات الشخصية وقـطع الطفل الجزائري عـن الثـقافـية العربية الإسلامية، وحاربوا كذلك العـقلية الخـرافية ((المرابطة)) تلك العـقلية التي– بما فـيها من خرافات و ((شفاعـات)) – تنافي الإسلام (ولذلك شجـعها الاستعـمار)، كما حـاربوا التعـليم البائد الذي أوقع الإسلام في الجمود وأبقاه منحطا وجعله عقيما باقتصاره على اجترار علوم الأولين.
ـ
وهكذا فالمشكلة تتمثل في الاهتداء إلى طريقة يمكن بها تفادي الوقوع في المحـظورين: الحذو حذو النمودج الغربي على غـير البصيرة من أجل التطور والتعليم…أو الرفض المطلق لكل ما لا ينتمي إلى التراث القديم.
ـ
إذا كان لرجال الإصلاح من فـضل فهو أنهم أدركوا بأنه لا فائدة من الجـدال حـول التعـارض بين العلم والدين ولذلك دعـوا إلى إدخال عـلوم الغرب وتقـنياته بعـد نقـدها وفـرزها واتخـاذهـا كوسائل لخـدمة أهداف الإسلام.
ـ
إن الشريعـة التي تتميز بالدعـوة إلى نمط من الحياة يقوم على أداء المؤمن لما أمر الله به هـذه الشريعة لا تعني إطلاقا الجمود والتقـيد بنفس الأحـكام والقوانين التي نظمت شؤون المسلمين تنظيما حسنا منذ عشرة قرون بل على العـكس تعني بذل الجهود المثمرة من أجل تغيير المجـتمعات المعاصرة في ظروف تاريخية جـديدة تماما وهي ظروف وأحـوال تستلزم مبادرات وطرائق جـديدة وفق ما جاء في الرسالة المحمدية الخالدة، فالإسلام إذ يـدعـو إلى ((ذكر الله والتأمل في مغـزى الحياة واستخلاص العـبر من التاريخ إنما هـو قادر اليوم -بعد ما أخـذت الأوضاع في العالم تتردى لا بسبب نقص الوسائل بل بسبب الافـتقار إلى هـدف محـدد –هذا الإسلام قادر اليوم على السعي بالمجتمع البشري في الاتجاه الذي يجعله يعمل لتحـقيق ما أمر به الله للناس من خير )).
ـ
ولم يخفى على سلطات الاحتلال ما في هـذه الدعـوة من خطر على كيانها فـعمدت في شهر مارس 1940 إلى نفي الشيخ الإبراهيمي وأبقته رهـن الإقامة الجبـرية، وكان الشيخ على تلك الحال عندما اخـتير على إثر وفاة الشيخ ابن باديس رئيسا لجمعية العـلماء، وعندما أفـرجت عنه السلطات الاستعـمارية في بداية عام 1943 استطاع في عام واحـد أن ينشئ 73 مدرسة في المدن والقرى و400 مدرسة خلال السنوات الموالية، ثم ألقي عـليه القبض بعـد المجازر التي ارتكبتها سلطات الاحتلال في 1945 ولكن الشيخ الإبراهيمي عاد إلى نشاطه التربوي فور الإفـراج عنه.
ـ
وهـكذا عـندما نتصور الإسلام بمثل هـذا التصور الحي، فإن كلمة الله تصبح قـوة تخلق المعـجزات فصرخة ((الله أكبر)) المدوية عبر القرون أعطت لما يكسبه الإنسان في هـذه الدنيا من سلطة أو من مال أو من علم أعـطت له قيمة نسبية لا يتجـاوزها والمسلم إذا قال ((الله أكبر)) معناه أنه لا يرضى بالخـضوع إلا لله وحده.
ـ
وهذا الخضوع لا يعني المذلة والخنوع بل يعني الاستجابة لكلمة الله ((لبيك اللهم لبيك)) وهي استجـابة فعالة مبدعـة ومسئولة : فالإنسان باعـتباره ((خـليفة الله في الأرض)) هو المخـلوق الوحـيد الذي في إمكانه أن لا يطيع أوامر الله، وهـذه القدرة الخـطيرة على العـصيان التي بسببها سجـدت الملائكة لله رب العالمين تجـعل الإنسان مسئولا تماما عـن وقائع التاريخ.
ـ
ونحـن اليوم إذا نعـترف للشيخ الإبراهـيمي و للشيخ ابن باديس بما لهما من فضل عـلينا بإرشادنا إلى قـراءة القـرآن قـراءة جـديدة كـكتاب حي قـادر على أن يـوجه أنظارنا إلى مستقبل جـديد لابد لنا أيضا أن نتـذكر ما قاله جـويسgaures :
((الوفاء لمنزل الأجـداد لا يعني الاحـتفاظ بما بقي فيه من رماد بل يعـني إحـياء ما بقي فـيه من جـدوة)).
ـ
ما أتمناه من جـريدة البصائر أن تمد جـذور عمل المشايخ والعـلماء رحمهم الله إلى آخر الحـدود بل إلى حيث لا حـدود عـندما تقـرأ وتتصفح لا تجـد ما تقول أشياء تحـس ولا توصف بل لا تفسر.
* بــقـلم : الأســـتاذة سـلسبيل