مـراجـعة نـقـديّة لـبعـض مـقاصـد الخـطاب الحـداثيّ الـعربـيّ/ 2 . د : فؤاد مليت
وإنّـما كـان مـقـصودنـا مِـن الحــديـث عـن المـسؤولـيّة الفـكريّة، ومـا رأيناه مِن استـثـقالها مِن قِبَلِ مُـفـكّـري الحـداثة الأوائـل، الإشارة إلى أصل راسخ فـي الممارسة الأنـوارية، ولاسيما مع ما نعلمه من سريان روح الأنوار في فلسفة الحداثة ومبادئها، حتى أن هذا الأصل المومأ إليه يعد واحدا من أسس الحداثة وأركانها؛ فقد عرَّف كانط الأنوار بقوله: "هي خروج الإنسان من حالة القصور التي هو عليها، بسبب انعدام القدرة لديه على استعمال عقله دون توجيه من الغير […]"[1]. فإذا كانت هذه هي حال الأنوار من تحطيم لكافة أشكال الوصاية وانعتاق من قيود القصور وتحرر مسؤول في التفكير، وقيام الإنسان بتدبير أحواله بما هو راجع إلى خاصية ذاته، فإن الذي يدعونا إليه طه حسين إنما هو إطفاء لجذوة الفكر فينا، أو ما تبقى منه لدينا، أي أن دعوة طه حسين إنما هي دعوة جهالة وظلامية، ما دامت تنتهي إلى وجوب اتِّباع طريق غيرنا؛ هي إذن، في منتهى أمرها، مشروع يستبدل تقليدا بتقليد، أو هو يخرج من وصاية، لا ليستقل بواجب التفكير لذاته، بل ليدخل طواعية، دخول القُصَّر الذين لا يملكون من أمورهم شيئا، في وصاية أخرى. حقا، "ما أسهل أن يكون المرء قاصرا"[2]، يستبدل سيدا بسيد، بل إنه لو خُيِّر بين هذه الحال وحال كونه قائما بشؤون ذاته ومسؤولا عن جميع أحواله، لاختار الحال الأولى لِمَا فيها من انعدام المسؤولية فرارا من متاعبها ومشقاتها؛ فإن الحرية موقف مسؤول، وهي كفاح دائم لتجاوز معوقاتها. وإذن فهذا الذي يدعو إلى الاتباع، أيا يكن المتبوع، هو ما يزال قاصرا، في معنى أن صفة القصور باقية فيه على حالها، وأن طور الرشد ما يزال لديه غاية غير مدركة أو حلما مطلوبا، يفتقر إلى العُدَّة الفكرية التي تمكنه من الظفر به.
ـ
هذا، ولئن كانت دعوى اتِّبَاع حضارة أوروبا ساقطة في النصف الأول من القرن الماضي، زمن طه حسين، فهي عندنا، اليوم، أشد سقوطا وتخلفا؛ اللهم إلا أن يقال إنه وبعد مضي قرن ونيف عن استفاقة العرب والمسلمين على الواقعة التي زلزلت كيانهم وأوقعت في أنفسهم الرهبة من تقدم الغرب ومن عمق ما بين العالمين من هوة، ما يزال عرب اليوم قابعين في موقع عرب الأمس، لم يتجاوزوه، ولا هم غيروا من وضعه أو من شروطه؛ بل إنهم- على ما يظهر من أحوالهم الراهنة- قد فقدوا هِمَّة الأوائل وعزمهم على النهوض والوقوف وقوف الندية لحضارة الغرب، ولو بتقليدها! فما عادوا، في الغالب، قادرين على مجرد تصور إمكان قيام حداثة غير أوروبية، فاعتنقوا بسبب ما هم عليه من انسلاب فادح أطروحة كونية الحداثة أو عالميتها- دفعا لمسؤولية التفرد والخصوصية-؛ كما لو أنه لا مجال لحداثة غير أوروبية، ولا لفلسفة غير أوروبية، ولا لقيم غير أوروبية. وهل هناك استرقاق أشنع من أن ينتهي المفكر العربي، بعد تحليل المسألة واستقصاء وجوهها، إلى أن أوروبا هي الكونية؛ ولما كانت الفلسفة هي التفكير على نحو كلي، وكانت الحداثة هي هذا النمط من التفكير على جهة الكلي ذاته، فإنه من طلب الكلي فقد طلب أوروبا؟
ـ
لننظر بشديد الاختصار في السبب الذي حمل ممثلي الحداثة العرب على الاندهاش من واقع الحضارة الأوروبية حتى ارتفعوا به إلى مقام الكلي؛ ولنترك الكلام للمفكر التونسي عبد المجيد الشرفي، الذي أخذ يعدد مظاهر الحداثة بوصفها نمطا حضاريا أوروبيا، يقول: "[…] – في التّــقـدّم العـلـميّ البـاهـر في شتى الميادين، وفي الاكتشافات والاختراعات التي غيرت نظرة الإنسان إلى نفسه وإلى العالم من حوله، وسهَّلت عليه طرق النقل والاتصال، وأنقذته من براثن الأوبئة والأمراض حتى تضاعف الأمل في الحياة عمَّا كان عليه في الماضي؛ – وفي الازدهـار الاقــتـصادي، ولاسيما الدخول في عصر التصنيع، وما نتج عنه من توفّـرٍ للسّـلع ومـواد الاسـتـهـلاك، وعـمـوما مـن رفـاه؛ – وفي الحركة الفلسفية والفكرية التي دعَّمت مكانة العقل ودافعت عن حريات التفكير والمعتقد والتعبير، وقاومت الأوهام والأساطير واحتكار الهياكل الكنسية لشؤون الدين؛ – وفي النظم السياسية التي كرَّست مبادئ علوية الدستور، والمساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات وأمام القانون، والتمثيلية الشعبية، وضمَّنَت حق المعارضة في التداول على الحكم بالطرق السلمية"[3].
ـ
لعل أكثر ما يستوقف القارئ لهذا المقطع هو ترتيب عناصره، نعني أن الأصل المتبع في المباحث الأكاديمية، والمفكر الشرفي أكاديمي متمرس، هو أن يجيء ترتيب العناصر بحسب ما لها من الخطورة والقيمة، فيكون العنصر الأول مقدما بالاعتبار على سائر العناصر، وهكذا في ترتيب تنازلي منضبط؛ فإذا راعينا هذه الحيثية وقرأنا مقطع الشرفي من زاويتها، فاجأنا انبهاره بالجانب التقني من مكتشفات العلوم الأوروبية ومخترعاتها، حتى أنه جعله أول مظاهر الحداثة وأحقها بالإشادة. إن لنا أن نسأل رأسا، وبغير إبطاء، أيهما أولى بالوقوف على خطورته وأجدر باعتبار قيمته، قياسا إلى خلو ساحتنا منه: أهو اصطباغ حياتنا المادية بمكتشفات الحضارة الأوروبية وبأدواتها التقنية، أم استقامة أحوالنا الوجودية على مبادئ نُظُم سياسية ودستورية تعصم السائرين على منهاجها من التورط في فضائع الطغيان والاستبداد؟[4]
وما نظن أن صاحب القول هو بحيث يغيب عنه أن واقع العالم العربي والإسلامي، على ما بين مجتمعاته من التفاوت في مقدراتها الاقتصادية وأوضاعها العلمية، ومقدار ما حققته أو هي آخذة في تحقيقه من استجلاب أسباب الرفاه- حتى غدت في مجموعها مجتمعات غارقة في الاستهلاكية-، لئن هو احتاج إلى شيء مما ذكره في عناصره الأربعة لكان احتياجه إلى آخر عناصره مقدما على غيرها، بل لعله لو قُدِّر له أن يأخذ بنصيبه من هذه النظم الدستورية، التي أشار إليها باقتضاب آنفا، وعلى قدر ما تتطلع إليه شعوبه، لاستغنى بها عما سواها؛ فإن صلاح أحوال السياسة عندنا وانتظام أمورنا الاجتماعية هو شرط مقدَّر لكل إصلاح مطلوب؛ وليست آفاتنا في أننا لا نفكر أو في أننا لا ننتج، ولا هي منحصرة في كوننا لا نمارس العلم أو في عجزنا عن تصريف مبتكراته، بل رأس الآفة عندنا أننا نُمنع من العلم ومن الفكر ومن الإنتاج، فإذا ارتفع هذا المانع وزالت معه مظاهر التسلط والقهر، انفتحت أمام العالم العربي والإسلامي منافذ الحرية والتحرر، وتهيأت له بموجبها أسباب الأخذ بمصيره، وعرف حينها كيف يباشر بناء حضارته والاعتناء بأحوالها؛ وإذن، فليس العربي اليوم بأحوج إلى شيء احتياجه إلى الحرية.
ـ
وعلى هذا، فلو سلَّمنا جدلا أن وجه الاضطرار إلى الدخول في مسار الحداثة الأوروبية هو افتقارنا، بالكلية، لِمَا أحصاه الشرفي من كبرى تجلياتها، فلا نسلِّم له خطته في ترتيبها، من حيث إن الترتيب هو ضرب من ترتب بعض العناصر على بعض أو لزوم بعضها من بعض؛ ولا نرى إلا أن يتقدَّم آخرها، وهو العنصر السياسي؛ وحجتنا فيما نزعم له من الأولية هي ما نعلمه من عُسْر التحقق به وفداحة التفريط فيه، بل لِمَا يقتضيه من تضحيات جسيمة ومكابدات باهضة– وقد تكون ضريبة الدم عنوانها الأبرز-؛ وليس الأمر على هذه الشاكلة فيما سواه من العناصر، أو هو دونه حدة وصرامة في غيرها. فلأجل ذلك كان استتباب الأوضاع السياسية وسريان المساواة بين أفراد المجتمع في الحقوق والواجبات شرطا في شيوع الحرية فيما يتصل بأمور الفكر والمعتقد والقول؛ وما تحققت هذه الحرية في مجتمع إلا ازدهرت فيه العلوم والفنون والصنائع، وارتقت فيه – بالتَّـبَع – أوضاعُه الاقتصادية مرتقى يحفظ لكل فرد من أفراده حقوق الآدمية وكرامة العيش.
ـ
ما الذي يفسر هذا الذهول عن مقاصد الحداثة ومطالبها لدى واحد من أبرز المبشرين بها؟ إنه لا يمكن أن يكون سببه غير ما يجوز تسميته، مع فتحي المسكيني، بـ"الدهشة الإستيطيقية"[5] من الحداثة؛ وهي دهشة تربك صاحبها من فرط شدتها عليه، فتنال من وجاهة تحليلاته، ناهيك عن معقولية مواقفه الفكرية. ذلك لأن من تستبد به الدهشة يكون في حكم المنفعل المأخوذ الذي تطغى لديه أهواء العاطفة ومنازعها على أحكام العقل وضوابطه؛ وحينها لا يكون غريبا أن يجري تحت قلم الشرفي هذا القول: "[…] وما آلت إليه الحداثة نفسها من اتساع خرجت به من كونها نمطا غربيا إلى كونها أفـق انـتـظار البـشرية قـاطبة […] أدى في مفتتح هذا القرن إلى ضرورة التفكير والسلوك على أسس جديدة منقطعة الصلة أو تكاد عما كان مستقرا في العقول والنفوس طيلة قرون. وبعبارة أخرى، فإن الحداثة لم تضح اختيارا بقدر ما هي واقع […]"[6]. وليس المستغرب منه في عبارة الشرفي حكمه بالكونية الشاملة لحضارة الغرب، أو ضنه بالحرية على عرب هذا الزمان في إقبالهم على حداثة الغرب أو إدبارهم عنها، فحسب؛ ولكنه فوق ذلك كله إنزاله الغرب منزلة يحتار القارئ لنصه في تعيينها، ولعل أقرب وصف يدنو مما تُشعر به تحليلات الكاتب هو أن الغرب أمة استثنائية أو ظاهرة فريدة متعالية؛ وإلا فكيف نفسّر أنه ما فتئ يدعونا– على غرار سائر الحداثيين- إلى احتذاء أنموذج الغرب واتباع طريقه، حتى بلغ من افتتانه به أنْ أرسل القول بضرورة القطع مع ميراثنا المستقر في عقولنا ونفوسنا منذ قرون متطاولة، مع سابق إقراره بأنّ "البلاد الأوروبية لم تعرف، منذ عصر نهضتها وعلى امتداد القرون الخمسة الماضية، قطيعة حقيقية مع أوضاعها الماضية، ولا طفرات تجسمت فيها المظاهر الحضارية المتجددة وغير المسبوقة، بل كانت هذه المظاهر ثمرة طبيعية لتطورها الذاتي ولتراكم التجارب والخبرات"[7]. فلِم تكون حداثة أوروبا موصولة السبب بماضيها، وحصيلةً طبيعية لتطورها الذاتي، وتكون حداثتنا المستوحاة من عين الأنموذج الأوروبي قطعا مع ماضينا، وقفزا في مدارات غيرنا؟ أليس مقتضى الكونية أن الأمم شركاء فيما يعرض لها من تقلبات وأوضاع تاريخية، وأن ما يصدق على إحداها صادق بذاته على غيرها، على جهة الكلية؟ فما السبب الذي يحفظ على أوروبا صلتها بماضيها، ويقطع علينا صلتنا بماضينا، إلا أن يكون أمرا خاصا بكل أمة أمة، وحينها ألا يبطل القول بالكونية والكلية وما هو في معناهما؟
ألم يحن، بعد، الأوان لتناول مفهوم الحداثة تناولا خالصا من تلك الشحنة الانفعالية التي لازمته عقودا طويلة؟
ـ
إن مسـألة الدهشة هذه وما هو لازم عنها من الذهول، بل ومن ذهاب العقل أمام واقعة الحداثة، لهي أمر حقيق بكل استشكال! كيف غاب عن دعاة الحداثة- حتى لا نقول عـن أدعـيائـها – أنّ قــولـهم : "لا فـلسـفة إلا بـالـكلي"[8]، وقولهم: "إن الحداثة باتت واقعا مفروضا لا انفكاك عن الدخول في تجربته"[9]، هما قولان متناوئان، لا يلزم عنهما بأي حال من الأحوال اعتبار الحداثة أمرا كليا أو كونيا؛ ووجه اعتراضنا على هذه النتيجة هو أن الحداثة لَمَّا كانت واقعا، وكان الواقع هو ميدان الجزئي، فقد بطل أن يُعامل الجزئي الواقعي معاملة الكلي المفهومي؛ وحينها يصح الرد على أطروحة الحداثيين ودفعها بقولنا: أمَّا أن تكون الحداثة "الأوروبية"، اليوم، واقعا، فذلك ما لا يقوى أي شك على زعزعته، فإن الواقع لا يرتفع؛ وأما أن يقال إن هذا الواقع قد صار أفق انتظار البشرية قاطبة، فهذا استدلال واقع في مغالطة دلالية فادحة، من حيث هو ينتقل من مقولة واقعية إلى مقولة معيارية دون مسوغ من دليل أو حجة ظاهرة.
ـ
ـ
* الهـــــــــــــوامـــــــش :
ـ
[2] المرجع عينه، الصفحة عينها.
[3] عبد المجيد الشرفي، مرجع سابق ذكره، ص 80- 81. التشديد منا.
[4] راجع رأيا سديدا في محمد عابد الجابري، التراث والحداثة، ط1، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 1991، ص 18؛ "[…] تلك وجهة نظرنا في الحداثة كما يجب أن تتحدد على ضوء معطيات واقعنا الراهن، إنها قبل كل شيء: العقلانية والديمقراطية".
[5] فتحي المسكيني، مرجع سابق ذكره، ص 60.
[6] عبد المجيد الشرفي، مرجع سابق ذكره، ص 82. التشديد منا.
[7] عبد المجيد الشرفي، مرجع سابق ذكره، ص 81. التشديد منا.
[8] فتحي المسكيني، مرجع سابق ذكره، ص 55.
[9] عبد المجيد الشرفي، المرجع عينه، ص 82.