مصرف السلام الجزائر .. خدمات بنكية أصيلة
حوارات

الدكتور ذهبي، العالم النووي الجزائري في حوار مع البصائر

dehbi هجرة الادمغة الجزائرية سعيا لعلم أكثر ومال أوف أم هروبا من فقر جامعاتنا المتقع وغثائية مسيريها المفزع !!

الدكتور ذهبي، العالم النووي الجزائري من طراز جائزة نوبل

في خدمة الجالية المسلمة في زيوريخ السويسرية

*********

معضلة "فرار أو نزيف الادمغة " كما تسمى ليست خاصة بالجزائر، و لكن تفاقم هذه الظاهرة عند الجامعيين الجزائريين هو الذى يجعل الامر مذهلا و محيرا للعقول.

الصين تخصص 1.5 في المئة من انتاجها المحلّي الخام للبحث والتنمية  والنتائج الحتمية  في عشر سنوات تضاعف عدد صادرات الصين أربع مرات !!

قاعدة النظام في تسيير البلد هي الاستيراد ثم الاستيراد، والفضل يعود في ذلك لتركة البترول اللعينة،  فكم سيكون الاستيقاظ موجعا بعد انقضاء سنوات "جغمة" البترول!!

السويسريون لديهم الأفضل والأجود و الأقوى في العديد من المجالات، و سويسرا هي بلد الأرقام القياسية  على صغر حجمها الجغرافي و أن موسوعة قينيس للأرقام القياسية تزخر بالعملاق السويسري.

يزورنا علماء الأزهر وتوفّر لن الرّابطة أهم الكتب الإسلامية مترجمة إلى لغات البلد. أمّا بالنسبة لجمعية العلماء الجزائرية فهي في قلوبنا لأنّه لم تتوفّر لدينا بعد طروف التعامل معها.

محمد مصطفى حابس

*********

زيوريخ هي إحدى أهم مدن سويسرا وأكبرها على الإطلاق. تقع في وسط شمال البلاد على مقربة من الحدود الألمانية على بحيرة زيورخ . تشتهر المدينة بشركات الخدمات المصرفية والتي تصنّف الأفضل في العالم، يوجد فيها أكبر سوق للذهب وترتيب بورصتها الرابعة عالميا بعد نيويورك ولندن وطوكيو، والمعاش فيها يعد من أغلى دول العالم، لذلك نالت وسام العاصمة الاقتصادية السويسرية عن جدارة و استحقاق.

تعد زيوريخ أفضل مدن العالم أمنا ونظافة وهدوء والشي الجميل فيها هو تنوع ثقافتها و عمرانها الانيق الذي يجمع بين الحاضر والماضي والمستقبل، بها أكبر جامعات العالم ، التي أفرزت ما يربو عن عشرة جوائز نوبل لوحدها ما بين 1975 إلى اليوم، و التي يدرس بها جزائريون وعرب.

الجالية المسلمة في سويسرا أكثر عددا في كبرى المدن و تأتي زيوريخ على رأسهم جميعا، بحيث يعيش 76 في المئة منهم في المدن الناطقة بالألمانية كالعاصمة بارن  و سانت قالن و مدسنة بازل على الحدود الالمانية الفرنسية .

في هذه المدينة أقيمت الاسبوع المنصرم، ندوة بعنوان " التربية  في الغرب و ضرورة العمل بفقه الاولويات"، احتضنتها مؤسسة عريقة هي "مؤسسة الشيخ زايد الاسلامية بزيوريخ"، و حضر الندوة كل من الشيخ صالح بوزينة من السويد، وهو إمام أسبق لمسجد الارقم بحي "شوفالي" بالجزائر العاصمة، و الشيخ عمار طليبة إمام مؤسسة الشيخ زايد، والدكتور رحايلية عبد الحسيب، إمام و أستاذ بجامعة عنابة، وكاتب هذه السطوٍر.  كما نشط الندوة يومي السبت والأحد الشيخ سعد شعبان من الصومال.

 وعلى هامش الندوة كان لنا الحوار التالي مع الدكتور عبد الوهاب ذهبي، الاستاذ الجامعي والخبير الدولي في الفيزياء النووية والرئيس الحالي لمؤسسة الشيخ زايد الاسلامية.

– مرحبا بك دكتور عبد الوهاب ذهبي، بداية لو تكرمت تقدم للقارئ الجزائري خصوصا والمسلمين عموما، نبذة عن شخصكم الكريم؟ وما هي الاقدار التي جعلتك تحط رحالك في سويسرا، بعد الدراسة في أكبر الجامعات العالمية ، علما أن الجزائر في حاجة إلى كفاءات رجال أمثالكم؟

الدكتور ذهبي:

بسم الله و الحمد لله و السلام على سيدنا محمد و اله و صحبه، وبعد

أخوكم عبد الوهاب ذهبي، جزائري الاصل، تنحدر عائلتنا من منطقة "الرباوات" جنوب مدينة البيض، ولدت قبيل الاستقلال في مدينة مكناس بالمغرب الشقيق، حيث هاجرت عائلتي قبل سنوات من اندلاع الثورة. تابعت دراساتي الابتدائية والثانوية بالجزائر العاصمة بثانوية ابن عباس بالأبيار والتي كانت تسمى "سانت جوزف و يديرها "الآباء البيض". بعد البكالوريا، درست الرياضيات العليا في باريس ثم انتقلت الى الولايات المتحدة الامريكية بجامعة أريزونا حيث نلت شهادة الهندسة في مجال الطاقة سنة 1985. حصلت بعد ذلك وبعون الله على منحة ممولة من "جنرل إلكترك" الأمر الذي سمح لي بمتابعة دراساتي العليا بمعهد التكنلوجيا بالماسشيوست ببوسطن، للحصول على الماستر سنة 1988، والدكتوراه عام 1991. كلتيهما في مجال الطاقة مع تخصص في المحطات النووية، قضيت بعدها سنة أخرة بـجامعة " أم أي تي " العالمية المعروفة كباحث و مدرس.

و لما كانت نيتي أن أقترب نوعا من بلدي الجزائر، بعد أن قضيت 10 سنوات في أمريكا، قبلت عرض عمل بمعهد بول شيرار " بي أس أي"، بسويسرا، بحيث يعد هذا المعهد من حيث الحجم أكبر معهد بحوث في سويسرا. موازاة مع وظيفتي بصفتي مديرا للبحوث، في " بي أس أي"، أدرس طلبة الماستر في المدرسة المتعددة التقنيات بزوريخ" أي بي أف زاد" ، واشرف على رسائل شهادتي الماستر والدكتوراه، طبعا هذه الجامعة أنجبت عددا لا يستهان به من الحائزين على جوائز نزبل و غيرها.

متزوج بجزائرية و أب لأربعة اطفال، هذه لمحة وجيزة عن مساري والذى لا يختلف كثيرا عن مسار الكثير من أشقائي الجزائريين من نفس جيلي والذين غادروا الجزائر بحثا عن العلم، و مساري هذا، يعد رحلة عمر حول العالم دامت 30 سنة، و الحمد لله.

2- طالعتنا الصحافة الجزائرية أن هناك نزيف حقيقي للأدمغة الجزائرية، عدد كبير من العقول المهاجرة للخارج فضلت البقاء في الخارج، في الوقت الذي تفتقر فيه جامعات الجزائر لأمثالكم، هل لك أن تشرح لنا بعض أسباب ذلك وتعطينا بعض الاحصائيات حسب التخصصات إن أمكن؟ ولماذا أنت لا تعود للعمل في جامعات بلدك الجزائر ؟

الدكتور ذهبي: لمّا احاول ان استذكر مئات الجامعيين الجزائريين الذين التقيت بهم هنا في أوروبا أو في الولايات المتحدة الامريكية،  ثم أريد ان اقيم احصائيات شخصية حول العدد منهم الذين رجعوا الى الجزائر، لا يكاد هذا العدد يتجاوز عدد أصابع اليدين، معضلة "فرار أو نزيف الادمغة " كما تسمى ليست خاصة بالجزائر، و لكن تفاقم هذه الظاهرة عند الجامعيين الجزائريين هو الذى يجعل الامر مذهلا و محيرا للعقول. إذا كانت الظروف المادية والمعيشية المميزة هي سبب انجذاب الجامعيين للمهجر بالنسبة للبعض، فإنها بالنسبة لي ليست السبب الرئيسي. لذلك يحق لك أن تتساءل معي، لماذا عادت أعداد كبيرة من الاف الطلبة الصينيين والكوريين والماليزيين الذين درسوا معي في الولايات المتحدة في الثمانينات الى بلدانهم؟ لماذا ترك هؤلاء الجامعيون ذووا المستوى التعليمي الراقي أجورا خيالية قد تتعدى عشرات أضعاف الأجور في بلدانهم، ليعودوا و يدرّسوا في جامعات محلية في بلدانهم الأصلية؟ السبب الرئيسي في رأيي، هو الحاجة القصوى التي يشعر بها كل عالم وكل باحث جامعي بأنه ضروري و أن عمله مهم للأخرين، اين ما وجد و حيثما كان. هذا العالم أو الباحث الأكاديمي قدم ما يقارب العشرية من أحلى سنوات عمره لإتمام دراسته ولذلك فانه من حقه بعد هذا الجهد الضخم ان يمارس عمله بصفة كاملة وحرة ليشعر بالرضى لأنه يساهم في تقدم مجتمعه و بلده. الصين، مثلا، والتي ليست ديمقراطية  حقيقية وماليزيا التي تتمتع بديمقراطية أكبر نوعا ما، بلدان أنجزا خلال الثلاثين سنة الماضية نهضة وطنية حقيقية اسهمت بصفة كبيرة للغاية كل الطاقات النخبوية الجامعية في اتخاذ القرار العام. الصين مثلا تخصص 1.5 في المئة من انتاجها المحلّي الخام للبحث والتنمية  والنتائج الحتمية  لهذه الادارة السياسية  أتت أكلها مباشرة ، ففي غضون عشر سنوات تضاعف عدد صادرات الصين أربع مرات !!

أنطر الوضع عندنا، فهوغير ذلك؟ النظام السياسي في بلادنا مشغول بهاجس بقائه، لا يحتاج الى جامعة ولا الى جامعيين بما انه ليس لديه مشاريع طموحة تبني لجزائر الغد وأجيال المستقبل.

  عموما القائمون على أمور البلد انفسهم ذووا مستويات تعليمية محدودة جدا، تجعل محاولاتهم لتطوير البلاد فاشلة، حتى وإن حسنت النيات أحيانا، كونهم لم تطأ ارجلهم يوما أية جامعة، كما أنهم لم يطالعوا أو يساهموا في أي مشروع علمي. شعبنا في الجزائر يعلم أن قاعدة النظام في تسيير البلد هي الاستيراد ثم الاستيراد، اذا احتاجت البلاد لأى شيئا يستراد و الفضل يعود في ذلك لتركة البترول اللعينة،  فكم سيكون الاستيقاظ موجعا بعد انقضاء سنوات "جغمة" البترول!! ستدفع الأجيال القادمة الثمن غاليا، ثمن هذا السبات من ثلاثين سنة و الذى استفحل أمره خلال العشرين سنة الاخيرة.

أهم قادة بلدنا، السياسيين تفوق أعمارهم الـ 75 سنة، وهو ما يزيد الطين بلة اذا ما قارنا ذلك بمتوسط عمر الشعب الجزائري الفتي.. حقيقة نتساءل كيف نأمل ان نتقدم في سنوات الانترنت والثورة الرقمية والنانونكنولوجيا ، مع قادة و صناع قرار في العقد الثامن من أعمارهم، لا يفقهون كيف يسير العالم من حولهم!  و لما يدعو النظام لإقامة فعاليات تخص النخبة الجامعية  في بلاد المهجر فإن ذلك لا يعدو أن يكون فرجة تلفزية لا غير، و تنفض من يومها، و لن يتبع ذلك ابدا بمشاريع واقعية مستقبلا، و بالتالي ما تلك "الفعاليات" في شاكلتها إلا " زردة " يدعى لها الباحثون الجامعيون، للتسلية و "شم ريحة لبلاد" لا غير!!

و للإجابة عن سؤالكم فيما يخصني شخصيا، فإني اقول انه ليس لي مكانا في بلدي، شأني في ذلك شان الكثير من أمثالي من الجزائريين الجامعيين في المهجر، ذلك لأن بعض قادة البلاد قرروا اقصاء وتهميش عقول و سواعد وطنية مخلصة، سواء في الداخل او الخارج، قرروا اقصاء كل الكفاءات النّزيهة والتي لا "تذوب" في قالب النظام، واليكم قصة صغيرة  تلخّص الوضع، لقد استضافني قبل سنوات مدير مركز كبير للبحوث في الجزائر لأحاضر وأساهم في كيفية اقامة تعاون مع مراكز بحوث في الخارج لي صلة  ومعرفة بها، عند وصولي الى الجزائر، يستقبلني مبعوث في غاية اللّباقة ليقول لي أنّ اللّقاء قد تمّ الغاؤه لأسباب أمنية  تخصني!! لماذا؟ أكيد أنه وسوس إليه أناس لا ينامون الليل "لحماية الجزائر" من أعدائها و مستباحيها ، مع أنّ اسمى لم يصدر في أيّة  من قضايا فضائح السنوات الاخيرة، لا في قضية "خليفة"  و لا في قضية "ال ب غ ص" و لا قضية "الطريق السريع شرق – غرب"  و لا في قضية "سوناطراك الأولى" ولا "سوناطراك الثانية" ولا "سوناطراك الثالثة" التي تحاك خيوطها في اللحظة التي أكلّمكم فيها…و كم ذا بالجزائر من مضحكات، لكنّه ضحك كالبكاء!!

3- هل هذا الأمر هو الذي زهدك في العمل في بلدك، وما الذي دفعك للعمل التطوعي الاسلامي وأنت تخصصك فيزياء نووية لتصبح رئيسا لمؤسسة الشيخ زايد الاسلامية بزيوريخ؟

الدكتور ذهبي:  يجب أن نوضّح أوّلا أن المسجد في الغرب بدأ يسترجع وظيفته الأولى في الوسط الجامعي، بمعنى أنّه مكان للحياة الاسلامية بكامل أوجهها، تقام فيها الصّلاة، يتحاور فيه المسلمون مع غير المسلمين من كل الأجناس، تقام فيه الندوات والمحاضرات ويحتفل فيه بمواسم الزّواج والولادات كما أنّه يجمع المسلمين لإفطارهم في شهر رمضان الكريم … وهذا ما نراه كذلك هنا في زيورخ حيث أنّ وجود الجامعات والجامعيين يعطى للمسجد دوره الروحي بالإضافة الى دوره التربوي والعلمي، ونظرا لأقدميتي في المنطقة ولأسباب أخرى تتعداني، وجدت نفسى على رأس المؤسسة الاسلامية في زيورخ. للتذكير فقط، إن التزاماتي في المؤسسة متواضعة نظرا لوجود طاقات متعددة وواعدة تشارك في ادارة شؤون المسجد.

4- دكتور، لو تكرمت تقدم للقارئ العربي بطاقة تعريف أو بسطة تاريخية مستفيضة لمؤسسة الشيخ زايد الاسلامية بزيوريخ، التي تعد من أقدم و أعرق المراكز الاسلامية في أوروبا؟

الدكتور ذهبي: باختصار تاريخ مؤسستنا طويل، فقد أسست مجموعة من المسلمين القاطنين في سويسرا الألمانية هذه المؤسسة منذ سنة 1975. جمعت هذه المؤسسة جنسيات مختلفة "عرب، أتراك، بوسنيون،  الخ…" و كان من أهدافها الاولى الحصول على مبنى لإقامة مسجد بزيورخ و كذلك الحصول على قطعة أرض لإقامة مقبرة للمسلمين. في سنة 1982، و نظرا لغلاء المشروع و قلة ذات اليد، اتّجه الأعضاء المؤسسون بتقديم مشروعهم الى الشيخ زايد رئيس دولة الامارات العربية رحمه الله، الذى قرّر، جزاه الله خيرا، إهداء فيلاّ كبيرة وسط زيورخ  وقفا للمسلمين يتخذونها مسجدا. يتّسع هذا البيت الكبير الى 500 مصليّا ومع ذلك فانّه يضيق، مع مر السنين، بالجالية المسلمة المتكاثرة باستمرار، فنحن نعدّ اليوم، ما يقارب الـ 10000 مسلما في زيورخ و ضواحيها ولذلك فإننا نضطّر الى حجز قاعات اضافية لصلوات الجمعة والعيدين، حيث يبلغ عدد المصلّين في الأعياد ما يقارب الـ 3000 مصليّا. ومن هنا فانّ هدفنا الرئيسي هو بناء مسجد يتّسع للجالية المسلمة المتكاثرة. أما بالنسية للمقبرة فقد حصّلنا بعد جهود مضنية وسنوات عديدة على قطعة أرض مساحتها 8000 مترا مربّعا. و بالتالي فالأهداف الأولية للمؤسسة قد تم تحقيقها بحمد الله، وهدفنا المركزي حاليا هو تهيئة شباب الجيل المسلم الناشئ لتحمّل تبعات هويته المسلمة بدون عقد أو تنكر، وإعداده بصفته مواطنا مسلما للمشاركة في سير حياة مدينتنا والوطن عموما.

5- أكيد نشاطاتكم في المركز متعددة، فما هي مشاريعكم المستقبلية؟

الدكتور ذهبي: مركزنا الإسلامي مكان لأداء الصلوات الخمس ومكان اجتماعي وتربوي، يلتقى فيه عدد كبير من الجنسيات، والجالية المغاربية هي الجالية الأكبر عددا متبوعة بالجالية الصومالية، كما أنّنا نجد كذلك مصريين ولبنانيين وباكستانيين وبنغال لكلّ جالية مدرستها الخاصّة بالأطفال الصّغار خلال يومي السبت والأحد. كما يتلقّى الكبار غالبية الدروس الدينية التربوية باللّغة العربية يقدمها إمام المسجد أو علماء يستضافون للمركز بصفة دورية. كما يشارك أيضا، شباب الجامعات والثّانويات في تقديم دروس تدعيمية للأطفال من مستويات مختلفة. نحاول في المركز من خلال هذه النشاطات أن نلقّن الشباب مفهوم الأمة ورسالة المسلم في الغرب، كما ننظّم "أيّام أبواب مفتوحة " لتعريف غير المسلمين بالإسلام وإزاحة المفاهيم الخاطئة المنسوبة للإسلام. كما نشارك بصفة فعّالة في الحوار ما بين الأديان ونشارك في مشاريع الاندماج المنظّمة من طرف سلطات مدينة زيورخ.

5- يفخر السويسريون بأن لديهم الأفضل والأجود و الأقوى في العديد من المجالات، و يقول البعض أن سويسرا هي بلد الأرقام القياسية و أن موسوعة قينيس للأرقام القياسية و السبق لا بد و أن يكون نصفها سويسري، فهل يمكن أن يسري هذا الأمر أيضا على الجالية الإسلامية في هذه الديار التي فتح بها أول  المراكز إسلامية في أوروبي تقريبا،  عن طريق كوكبة من العلماء و الدعاة الوافدين لسويسرا، و على رأسهم المرحوم الدكتور سعيد رمضان و الشيخ محمود بوزوزو؟  على ضوء ذلك ما علاقتكم بالحكومة السويسرية قبل و بعد " زوبعة منع المآذن؟

الدكتور ذهبي:  هذا الكلام صحيح إلى حد ما، على عكس الجاليات المسلمة الاخرى في أوروبا فإنّ الجالية المسلمة في سويسرا تكوّنت حول شخصيات ذات باع و إشعاع علمى لا ينكره أحد، أمثال الشيخ محمود بوزوزو من علماء الجزائر والأستاذ سعيد رمضان من إخوان مصر، رحمهما الله، اللّذان قدما إلى سويسرا في منتصف الخمسينات، ولذلك فإنّ نسبة الباحثين والجامعيين في الجالية هى بالفعل من أعلى النّسب في العالم. ومن هنا فإنّ الحوار بين المسلمين والسويسريين سهل ومميّز والتفاعل مستمرّ. وهذا ما يجعل الكثيرين من السويسريين يعتنقون الإسلام ويصبحون سفراء له.

 أما فيما يخصّ سؤالكم عن علاقتنا بالحكومة السويسرية سأتطرّق إلى نقطتين إثنتين أوّلا، لم تكن الحكومة السويسرية أصلا وراء مبادرة منع المآذن، بل على العكس من ذلك، تمّت هذه الأخيرة رغم ممانعة الحكومة، المبادرة تعود لحزب متطرّف اغتنم موجة الإسلاموفوبيا التى انهالت على أوروبا منذ عشر سنوات وفرض إقتراعا شعبيا إنتهى بالنتيجة المعروفة. ثانيا، بصفتنا منظّمة "محليّة " تنتمى إلى رابطة المنظّمات الإسلامية على مستوى سويسرا. أجرت هذه الرابطة الوطنية حوارات ومحادثات عديدة مع الحكومة للوصول إلى أجدى الطرق والوسائل التى تسمح لمسلمى سويسرا بالإندماج والإنخراط في الحياة السياسية و الإجتماعية و الجموعية . كانت مبادرة منع الماذن بمثابة هزّة كهربائية أصابت الجميع،  المسلمين والحكومة السويسرية أيضا التى بادرت إلى سلسة من الإجراءات لتسهيل إندماج المسلمين في المجتمع، من جهتنا قررنا أن نلتزم في جاليتنا بروح من النّقد الذّاتى لنتبيّن نقائصنا، لنصحّحها ونمضي إلى الأمام لنرسي في إطار القانون حقوقنا فى المواطنة التّامة والكاملة. و في الأخير كانت مبادرة منع المآذن إيجابية على الجالية المسلمة أكثر منها سلبية، " وعسى أن تكرهوا شيئا و هو خير لكم "..

ما هي التحديات التي تواجهكم في تربية الأجيال القادمة في مركزكم؟

الدكتور ذهبي: الجالية المسلمة في سويسرا شبيهة بالجالية المسلمة في أمريكا، بفعل التنوّع الكبير للجنسيات المكوّنة لها. بصفة عامّة، توجد هناك أربعة أرباع في هذه الجالية، الرّبع التركي، الرّبع الألباني-البوسني، الرّبع العربي و الرّبع الصومالي. في هذا التنوّع قوة للمستقبل. بالفعل أبناؤنا البالغون 20 سنة اليوم مختلفون عنّا كثيرا عندما كنّا في نفس سنهم. ليست لديهم عقدة، كونهم ولدوا في بلد اخر، فهم مولودون هنا، يحملون جواز سفر هذا البلد، أكملوا دراستهم الابتدائية والثانوية فيه. يتكلّمون اللّغات المحلية بدون لكنة، فهم أوروبيون ثقافيا، وهم بذلك لا يجرّون وراءهم رواسب "العيوب" التي حملناها نحن، كل من بلده الأصلي. فلا فرق هنا بين مسلم من أصل بوسني و اخر من أصل تونسي إلاّ ربّما في الاسم. هذا التوحيد الثّقافي واللّغوي عامل إيجابي للمستقبل، إذا ما اعتنينا بإعطاء أبنائنا مبادئ التربية الإسلامية. وهذا ما نحمل أنفسنا على القيام به في مساجدنا. يتعلّم الشباب مبادئ اللّغة العربية، وقواعد العلوم والآداب الإسلامية ولكن بلغتهم الأم والتي هي هنا اللّغة الألمانية. ننظّم في المساجد دوريا مخيّمات لتحسين وإتقان المفاهيم المدروسة ولتعزيز مفهوم الأمّة في نفوس الشباب. ننظم كذلك دورات لمناسك الحج و العمرة للارتقاء بمستوياتهم الروحية، فمثلا رتبنا الشهر للقادم عمرة لما يزيد عن 130 شخصا. هدفنا في الأخير هو تهيئة هؤلاء الشباب لمواصلة المسار. فنحن نأمل منهم أن يتولّوا إدارة هذه المساجد أو المراكز بعد عشر سنوات. الشباب هم شغلنا الشّاغل. في الستينات والسبعينات إشتغل المهاجرون للغرب ببناء بيوت لهم في بلدانهم الأصلية وعادوا ليسكنوها بعد تقاعدهم، جيلنا نادرا ما يفكّر في الرّجوع إلى البلد يوما ما، و لكنّه لم يبن بيوتا هناك، أمّا هذا الجيل، فهو لا يفكّر إطلاقا في الرجوع للبلد يوما ما، لأنّ بلده هي سويسرا. أملنا بإذن الله، ان يصبح أبناؤنا مواطنين كغيرهم مع خاصيتهم الإسلامية كما هم المواطنون الآخرون بخاصيتهم الكاثوليكية، البروتستانتية أو اليهودية.

7- ما هي علاقاتكم بالدول الاسلامية عموما و مؤسساتها  الدينية كالأزهر في مصر و رابطة العالم الاسلامي في السعودية  و جمعية العلماء أو وزارة الاوقاف الجزائرية {بحكم أنك من أصول جزائرية} و جلبتم إمام جزائري ؟

الدكتور ذهبي: علاقتنا جيّدة مع جميع المنظّمات الإسلامية العالمية التي تتعامل معنا ما دامت في أحضان ما يصطلح عليه بـ "الوسطية "،  بمعنى الإسلام في عمومه و تسامحه. و بالتالي، يزورنا علماء الأزهر القادمون في دورات إلى أوروبا خاصة في شهر رمضان الكريم.  توفّر لن الرّابطة أهم الكتب الإسلامية مترجمة إلى لغات البلد. أمّا بالنسبة لجمعية العلماء فهي في قلوبنا لأنّه لم تتوفّر لدينا بعد طروف التعامل معها. و ليست لنا كذلك أيّة علاقة مع وزارة الأوقاف الجزائرية. الجالية المتردّدة على مسجدنا متنوّعة الجنسيات والثّقافات وهذا أمر جيّد في حدّ ذاته. بصفتنا أقلية مسلمة هنا، فإنّ قوّتنا تكمن في كوننا نمثّل جالية وأمة وكلّ ما يساهم في شرذمتنا إلى جنسيات أو مجموعات لغوية فإنّه يساهم في إضعافنا. كون إمام المركز الحالي جزائريا أمر تصادفي، سبقه إلى هذا المنصب إمام مصري و قبله إمام مغربي..

 

8- و ما علاقتكم بمؤسسة الشيخ زايد، و دولة الأمارات العربية المتحدة التي تتبعون لها والمركز ملك لها؟

الدكتور ذهبي: مؤسستنا كيان مستقل يتبع القانون السويسري، ونحن بذلك مستقلّين عن مؤسسة الشيخ زايد بالإمارات، بناية المسجد ملك لها بالفعل وهي تسمح لنا باستعمال المبنى بعقد وقفي بيننا، ينص بأنّ المبنى يجب أن يستعمل كمركز إسلامي من طرف كل المسلمين مع اختلاف جنسياتهم وذلك في إطار القانون السويسري. ونحن ملتزمون بهذا العقد منذ 31 سنة وعلاقتنا جيّدة مع مؤسسة الشيخ زايد التي لا تتدخّل بأيّة طريقة في نشاطاتنا وهي مشكورة.

 

9- يقال التربية في الصغر كالنقش على الحجر، من هو الشخص الذي كان له الأثر الأكبر في تربيتك، عدا والديك ؟

الدكتور ذهبي: قد تتخيّل أنّ هذا الشخص أستاذ جامعي لامع، ذو المعرفة الواسعة والكلام البليغ والبيداغوجية الممتازة، بالفعل فإنّني درست كثيرا على أيدي أمثال هؤلاء من الأساتذة و أنا محظوظ لكوني رافقتهم في مساري، و لكن الإنسان الذي كان له الأثر الأكبر في نفسي وتعليمي هو "الشيخ سليمان" من دون شك، الذي كان مدرّسي في السنة الثانية ابتدائي، بمدرسة فينيار، قريبا من حي محي الدين، وهو حي شعبي بالعاصمة. كان الشيخ سليمان في الأربعين من عمره كما كان يوحي به شعره الرّمادي، وكان طويل القامة، رشيقا، مستقيم الهيئة، كان على الأغلب من خريجي "جمعية العلماء"، لأنّه كان يذكرنا بالصلاة كثيرا، و يتطرق كثيرا في الحديث عن كيفية أدائها عند المالكية واختلافها عند الحنفية، مع أنّنا لم نكن نستوعب كلامه جيّدا آنذاك، و لا نعرف المذاهب الاسلامية. كنّا نعتبره إنسانا خارقا لأنّه تميّز عن غيره من المدرّسين بانّه كان يخرج من روتين الدروس المبرمجة و يتحدث معنا عن أمور كانت بعيدة عن أذهاننا الصغيرة. ذات يوم دخل عصفور صغير قاعة الفصل خطأ و ظل ّيحلّق ثمّ خرج من بين قضبان النافذة، فعلّق الشيخ سليمان قائلا أرأيتم هذا العصفور الصغير، رأى سبورة سوداء كبيرة كتبت عليها حروف بيضاء جميلة فأراد أن ينضمّ إليكم و يتعلّم مثلكم العربية، فالحيوانات أيضا تحبّ أن تتعلّم. في يوم آخر، يوقف الشيخ سليمان درسه فجأة دون سبب واضح، و يقول وتظنّون أن شاب الـ 18 أو 20 سنة رجل حقيقي !!  الرجل الحقيقي هو من بلغ الـ 40 سنة على الأقل. كان على الأغلب يقصد بكلامه الحديث عن سن الرشد، سن الرسالة " حتّى إذا بلغ أشدّه و بلغ أربعين سنة "، الآية. و لكم أن تتصوّروا صدمتي و أنا من كان يضنّ أنّ شاب الـ 18 سنة، شاب الخدمة العسكرية كان رجلا متكاملا. في يوم آخر وبدون علاقة مع درسه، يغيّر موضوع الحديث ويقول لنا، أتطنّون أن بومدين رئيس لأنّه أقوى من الجميع، إعلموا إذن، أنّه لو انفرد به شخصان قويّا البنية لتمكّن من تلقينه موعظة محترمة " يعطوه طريحة "، لكم أن تتخيّلوا الصّدمة في ذهني و أذهان أصدقائي الصّغار أسطورة انهارت فجأة أمام أعيننا !! فعلا، كنّا نحب هذا الشيخ لدرجة أنّنا كنا نرافقه عند خروجه من المدرسة و نشيعه في طريقه إلى بيته، البعض أمامه والبعض وراءه والآخرون على جانبيه ، و كان الشيخ يواصل درسه خليطا ممزوجا بمواعظ و قصص و دروس مدرسة الحياة، كان يقف ليحيّي  أولياء التلاميذ، يتحدّث معهم في أمور شتّى وكان أحيانا يذهب إلى بيت أحد تلامذته ليتحاور مع أوليائه إذا استدعى الأمر ذلك. ألخّص الدروس التي تعلّمتها من هذا المدرّس العظيم في أمرين إثنين، التفاني و نكران الذّات في أداء المهمّة و مواصلة التساؤل عن كل المفاهيم و الأفكار المأخوذة مهما كانت، رحمه الله رحمة واسعة.

10- كلمة ختامية ؟

نحن لا نختار الزمن الذي نعيش فيه ولا الظروف المحيطة بنا ولكن بإمكاننا أن نعيش مسلمين في كل زمان و في كل مكان.  شاءت قدره الله سبحانه و تعالى أن تعيش هذه الجالية المسلمة وسط أوروبا في القرن الواحد والعشرون يتمنّى البعص منّا لو أنّه يعيش في بلده الأصلي ليشارك في إخراجه من تخلّفه. هكذا، كان سيّدنا محمد – صلى الله عليه و سلّم- مسلما متكاملا يوم فتح مكّة يوم كان محاصرا في الغار، سيّدنا يونس عليه السلام كان مسلما متكاملا و هو في بطن الحوت . نحن أنصار هؤلاء الأنبياء و علينا أن نكون مسلمين أينما كنّا وحيثما عشنا. مقتدين بكلمة إمامنا العلامة "بن باديس" رحمه الله البليغة والوجيزة للطالب الجزائري الذي قصده في نصح قبل ان يهاجر للدراسة في أوروبا ، فأرشده قائلال:" كن مسلما حيث ما حللت "، وبصفتنا مسلمين علينا أن نسعى لنصرة الإسلام والمسلمين و التمكين لهما، قال تعالى:  " ولقد كتبنا في الزّبور من بعد الذّكر أنّ الأرض يرثها عبادي الصّالحون " "إنّا لننصر رسلنا والّذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد " وإنتصار الإسلام عموما، سيتم وفق سنن الله في خلقه سبحانه و تعالى " سنّة الله التي قد خلت من قبل و لن تجد لسنّة الله تبديلا " من بين هذه السنن، إثنتان تتعلّقان مباشرة بتغيير وضع المجموعات والأمم " إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم" " و إن تتولّّوا يستبدل قوما غيركم ثمّ لا يكون أمثالكم" لا خلاص لنا للخروج من التخلّف و التأخّر و الفقر و الفساد بدون تجديد حقيقي للأمّة، و لن ينجح هذا التجديد إلاّ إذا ساير سنن الله الثّابتة. السؤال الحقيقى، الوحيد المجدي للفرد، للمجموعة و للأمة هو التّالي هل سينتصر الإسلام بنا، أو بدوننا، أو على الرغم منّا  ؟

جزاكم الله خيرا،

حاوره في زيوريخ : محمد مصطفى حابس

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى