المقامة الباديسية في الذكرى الخمسينية

ســبـعـون ســـنة أو يـــــــزيـد، انــقـضـت عـلى رحــيل الـــــعـالـم الـمـــجــــيـد. فــــيـا ابـــن بــــاديــــــس ! يـا رمـــز عـــزّتـنا، وبـــانـي نـــهـضـــتـنا، و مــحـيـي أمّـــتـنا ! هـــل تـأذن لـنـا روحــــك الــطّاهـــرة، بـعـد سبـعـيـن سـنـة مــن وفـاتـك الـبدنـيّـة، و خــمسين سـنـة مـن حـياتــنا الـوطــنية، أن يـبـثّـك مُـريـدك، مـنـاجــاة قــلب مــقـروح، و مُــعـانـاة عــقل مـــجـروح ؟.
ـ
وهل تسمح لنا، و روحك تحلّق بيننا بمناسبة ذكراك، أن نرسم لك بالكلمات ما يعانيه وطنك من تباريح، و ما يعتمل في صدر أبنائه من وساوس و تصاريح؟.
ـ
إنّ العلم الذي زرعته، في الليالي الحالكات قد أينع زرعه، و أثمر ضرعه في عقول الخلَّص من أبنائك، فصار يومًا، بل شهرًا للعلم، يَـتَـغَنَّى فيه الجزائريّون بخصالك، و يتغنون بحِكم أقوالك، و جلائل أعمالك، و لكن كيف صار العلم بعدك؟ و كيف طـبّق الوطنُ عِـلْـمَـكَ و عَـهْـدَك ؟ – أيُّ علم – هذا الذي آل إليه العلم بعد رحيلك؟ و أيُّ عـقل هذا الـذي يـدَّعي اقـتـفاء أثـرك، و نـهـج سـبـيـلك؟.
ـ
لقد أفرغ كلّ شيء من محتواه، و حاد كلّ بناء عن هدفه ومبتغاه، فأنـت رفـعت شعار الـتّــربـية و الـتّـعلـيم، ولكنّنا نكبنا عن صراطك القويـم، فأصـبـحـنـا لا نُـربّي، و نقدِّم – باسم العلم – التعليم العقيم، بمنهج العليل السّقيم. قـد لا تُــصـدّق – يا نافخ الروح في ثورتنا – إن قلنا لك بأنّ منظومة التربية والتعليم التي وضعت أُسُـسها قد آلت إلى منكوبة أو مظلومة تسّمم النّـفوس، وتسوّد الطروس، وتنشئ لنا من الناشئة كلّ منبوذ ومتعوس.
ـ
فَـشَتْ فـي مَـدَارسِـنَا كُـلَّ الآفــاتِ الاجـتـمـاعـيّـة، فَـالـتّـلـمــيذُ يَــضْـرِبُ مُـعَـلّـمَـتَـه، والـطّالـبُ يَــقـتُـل أُسـتاذَه، و ما ذلـك إلا لـتـنـاولِ المتخدّرات، وتَـعاطـي المُسكـرات، و شُـيُوع الـفـواحـش، و المُــنـكـرات.
ـ
سكن العنف مدارسنا، وملاعبنا، وشوارعنا، ومنازلنا، فعربدنا، وسلكنا سلوك السكارى، الحيارى، فهل نبني العلم والمعرفة بالحيارى، والسكارى؟ صرنا نلتقي بمظاهر العنف، في اختطاف الأطفال، واغتصاب القصر من الأجيال، واغتيال البرءاء من الأشبال… فتأتي كلّ ألوان المحال من الخيال، فيا لله لمستقبل النساء والرجال!.
ـ
ويسألونك عن الفساد بجميع مظاهره، فقل لقد عمّ البلاء، وساد الغلاء، واستبّد الفرقاء والغرباء، والأذلاء.
ـ
ماذا فعلنا –إذن- بتراث ابن باديس العلمي، وماذا يعني الاحتفال –اليوم- وإحياء ذكرى وفاته؟ إنّ خمسين سنة في عمر الإنسان، تعني النّضج، والتعقل والحكمة، فأين مظاهر هذا النضج في خمس عشريات من استقلال وطننا؟ لماذا حِدنا عن المنهج القديم الذي رسمه لنا ابن باديس في العلم والبناء، فأبدلنا كلّ ذلك بالظلم والشقاء؟.
ـ
إنّ الاحتفال بالذكرى الخمسينية للاستقلال وإحياء الذكرى السبعينية لوفاة رائد النهضة ابن باديس، واستعادة الذكرى الثمانين لتأسيس جمعية العلماء، لهي محطات جزائرية تاريخية مضيئة، يجب أن تلهمنا دروسًا ومعاني، نستلهمها لنستضيء بها في حياتنا المستقبلية، للخلاص من أعراض الانتكاس، والإفلاس، وإعادة تصحيح مسار البناء والإحياء.
ـ
و من أجل هذا لا بدّ من إعادة بناء كلّ منظومتنا السياسية، و الثقافية، و التربوية، و الاقتصادية، و الاجتماعية.
ـ
– يجب البدء في ضوء المنهج الباديسي بضخ روح الثوابت الوطنية في عقول الساسة، على جميع المستويات كلّ من موقع مسؤوليته. كما يجب إعادة البناء الثقافي والتربوي، وهما متكاملان بوضع أسس جديدة لمعنى الثقافة بتخليصها من مظاهر ارتعاد الجسم وهزّ الأرداف، إلى السّمو بها إلى مستوى الإبداع العقلي والإيمان الروحي.
ـ
– بخصوص المنظومة التربوية ينبغي أن تُسند عملية إصلاحها إلى هيئة وطنية عليا ممثلة لكلّ أطياف الفكر الوطني، لصياغة منظومة تربوية جديدة، تكون جزائرية الانتماء، عربية الأداء، إسلامية الروح، عملية المنهج، إنسانية القيم.
ـ
وما يقال عن المنظومات السياسية، والثقافية، والتربوية، يجب أن ينسحب على الاقتصادية والاجتماعية، بوجوب إعادة وضع آليات صارمة للمراقبة، بغية إحداث التوازن المفقود في البناء الوطني المنشود.
ـ
إنّ أعظم، وسام توشح به روح عبد الحميد ابن باديس، في ذكراه السبعينية هو أن نعمق معنى الانتماء الوطني في حياتنا وأن نصحح المفاهيم التي نتعامل معها، في مؤسساتنا الوطنية، فنعيد للعلم معناه، وللوطن مبناه، وللإنسان هداه، إذا أردنا أن نبقى أوفياء للعلم والعلماء؛ أمّا ما عدا هذا، أي عدم ترجمة أقوالنا إلى أفعال، وشعاراتنا إلى مشاريع، فسنظلّ نطارد طاحونة هواء، ويكون حالنا كمن يكتب على الماء.
ـ
ـ