إشكالية الفتوى السياسية /د.محمد دراجي

إنّ من أعقد القضايا التي تواجه الفقيه المعاصر، هي النّوازل السياسية، ومردّ تعقيدها ومنشأ صعوبتها في القدرة على الإحاطة بدوافع وأسباب النّازلة السياسية، وتقدير النتائج المترتبة عليها من خلال مآلاتها، فالحوادث السياسية الكبرى قد تكون وقائع بسيطة أو واضحة كالإفتاء في حكم الانتخابات، ودخول البرلمانات، والتعددية الحزبية، ومشاركة المرأة في العمل السياسي، وتوليها مناصب الولاية العامّة كالوزارة، والقضاء، والحسبة،…الخ. وهذه النّوازل على أهميّتها وضرورتها في الإصلاح الاجتماعي والسياسي الشامل، والحضاري العام الذي تحتاجه الأمّة الإسلامية دوماً، لتكون أمّة الشهادة كما حدّد لها دينُها رسالتها في الحياة، ومهمّتها في الوجود، إذ تبيّن المصالح والمفاسد في هذه المسائل بسيط، وتقدير الجانب الغالب من المصالح والمفاسد في الشأن الواحد كذلك ممكن وميسور، فالشريعة كما هو مقرّر عند علمائها المحققين مبنية على جلب المصالح ودرء المفاسد، ودرء المفاسد مقدّم على جلب المصالح، والمصالح المقصودة هنا هي المصالح الحقيقية لا المتوهمة ولا الظنية، والعامة لا المصالح المرتبطة بشخص أو فئة، وأن لا يوجد في نصوص الشرع وقواعده الكلية، ومقاصده العامّة ما يشهد لها بالاعتبار أو الإلغاء، فكل ما جلب المصلحة، وحقق العدل، وحقق الرحمة للأمّة، ونشر الخير في أوساط المسلمين، فهو من الدّين، والإسلام حريص عليه ويحث أتباعه على الأخذ به، والاستفادة منه، ومع ذلك وجد في علماء المسلمين ومشايخهم من حارب هذه الأفكار السياسية أن تدخل إلى دنيا المسلمين، وأن يتبنوها ويعملوا بها في تنظيماتهم السياسية بدعوى أنها أفكار جادت بها قرائح الكفار، والإسلام نظام متكامل مستغن عنها وعن غيرها من الأفكار البشرية، وليس هذا مجال مناقشة هذا التوجه الفكري، وبيان بواعثه، إذا كانت علمية أم سياسية، ونيات أصحابه الداعين إليه إذا كانوا مستقلين في آرائهم وأفكارهم هذه، أم هم مرتبطون بأنظمة سياسية يروّجون لها ويعملون على استقرارها ولو على حساب الشعوب، بل ولو على حساب الدّين نفسه وقيمه، والعلم وأمانته.
ولكن النّازلة التي دوّخت الفقهاء، وتركت الحليم حيراناً، وانقسموا فيها إلى فئتين متنابذتين، تتراشقان التهم وتتبادلان الانتقادات، هي ما اصطلح عليه إعلامياً “بثورات الربيع العربي”، فهبة الشعوب وانتفاضتها ضد حكامها المستبدين، وعملها الجاد، وسعيها الدؤوب لتحقيق حريتها، والوصول إلى برّ الديمقراطية، وتصبح بإمكانها أن تختار من يحكمها، بحيث يصبح الحاكم يُختار بالاختيار الطوعي من قبل أغلبية الشعب، وتكون السياسة التي يتبعها هذا الحاكم تعبيراً عن تطلعات الجماهير وترجمة لآمالها وآلامها، هذا كلّه أمر مرغّب فيه، شريطة أن تكون التحركات نابعة من أعماق الجماهير، نتيجة اقتناع بالتغيير وضرورته، واستعداداً لتقديم التضحيات تلو التضحيات من أجل إنجاح هذا المشروع، ومن الطبيعي أن يكون الفقهاء في صفّ الشعوب وهي تقاوم استبداد حكّامها وفرعنتهم، وأن يعتبروا هذا لوناً من ألوان الجهاد، بل من أفضل أنواع الجهاد، ولكن المحاذير هنا جمّة، ولابدّ من أخذها بعين الاعتبار، وأن أي إغفال لها يورد المهالك، وأخطر هذه المحاذير هو الاحتواء والتوظيف، فقوى الاستكبار العالمي، قد رسمت سياسات جديدة للمنطقة، قائمة على تقسيم المنطقة إلى دويلات صغيرة، على أساس عرقي، أو مذهبي، فدولة للأكراد، ودولة للشيعة، ودولة للسنّة، ودولة للدروز، ودولة للعلويين، وهكذا، فكيف يستطيع قادة الثورات في العالم العربي، أن ينأوا بأنفسهم عن هذا المستنقع، وألا يكونوا أدوات لتخريب المنطقة وإضعافها أمام إسرائيل، وما هي الضمانات التي يستطيعون تقديمها على أنّ المساعدات التي يتلقونها ليست مشروطة بالتطبيع مع إسرائيل فيما بعد، لأنه من المعلوم أن الغرب –الداعم الرئيسي لثورات الربيع العربي- ليس جمعيات خيرية، وعليه فالفقهاء الذين يتخندقون مع الثورات وينظرون لها، عليهم تقديم إجابات شافية على هذه التساؤلات التي لابد من أخذها بعين الاعتبار في بناء الرأي الفقهي، وإصدار الفتاوى السياسية، الداعية للشعوب للانخراط في الثورات.
وبالمقابل فإن الفقهاء الذين تخندقوا مع “الدولة الوطنية” أو مع “الوطن” بحجة أن هذه الثورات مجرد مؤامرات عالمية تستهدف إضعاف “الدولة الوطنية”، وإدخال المنطقة في دوامة الفوضى، عليهم ألا يستثمروا في المحاذير التي تكلمنا عليها سابقا وألاّ يضخموها، وألاّ يجتروا فتاوى تراثية حول منع الخروج على الحاكم الظالم الجائر، فهذا لا يحل المشكلة بل عليهم أن يواجهوا الحكام المستبدين، بظلمهم وتجاوزاتهم، وتعسفهم، وعليهم أن يرفعوا الصوت عاليا لهؤلاء الحكام بالتأكيد على قيم العدل والشورى، وحقوق الإنسان، وضرورة الكف عن سياسة تكميم الأفواه، ومصادرة الحريات، والاعتقاد بأنّ الأوطان عبارة عن ملكيات خاصة يتصرّف فيها الحكام كما يشاءون، وأن يلحوا على وجوب الانخراط في مشروع إصلاحي سياسي اقتصادي شامل يستوعب كل شرائح المجتمع، فهذا وحده هو الذي يقطع شرارة اندلاع الثورات..، والذي يبقى التكييف الفقهي لها من أعظم المعضلات، وأكبر التحديات التي تواجه الفقيه المعاصر.