في ملتقى القرآن في سُوف /أ.محمد الهادي الحسني
تفضل الإخوة في شعبة “جمعية العلماء المسلمين الجزائريين” و”مدرسة عموري للقرآن الكريم” بمدنية وادي سوف بدعوتي للمشاركة في الملتقى السابع للقرآن الكريم، الذي عقد في 30 ـ 31 مارس وأول أفريل 2013.
وقد لبّيتُ الدعوة لأمرين اثنين:
❊) موضوع الملتقى وهو “الحرية في القرآن الكريم: ضوابطها ومجالاتها”، وهو موضوع هام، وما يزال مجال جدال ومناقشات بين المفكرين والمثقفين في العالم، وفي عالمنا الإسلامي بوجه خاص، “لأن مصادرة الحريات تلغي إنسانية الإنسان، وتكرس الظلم الاجتماعي، والاستبداد السياسي، والحكم الجبري”.
❊) رغبتي في التعرف على منطقة أعطت الجزائر أعلاما في العلم والثقافة والجهاد ومنهم محمد العيد آل خليفة حسّان الحركة الإصلاحية، ومحمّد الأمين العمودي، أول أمين عام لجمعية العلماء، وعبد القادر الياجوري، الأستاذ في معهد الإمام ابن باديس، وكان يردد على أسماع تلاميذه: “إذا كان للظالم أن يستبد، فعلينا أن نستعد”، والشيخ عبد العزيز الهاشمي، شيخ الزاوية القادرية الذي انضم إلى جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، مما جعل فرنسا تُصاب بالكلب وتجلب على الوادي بخيلها ورجلها، وتحاصره بضعة أيام، وتقبض على نخبته، وتروّع الآمنين، لأن انضمام شيخ الزاوية القادرية إلى الجمعية قد يدفع شيوخ الزوايا الآخرين إلى مراجعة موقفهم من الجمعية، وقد يشجعهم على أن يفعلوا مثل ما فعل، مما يفقد فرنسا عيونا وآذانا… ومنهم الشيخ حمزة بكوشة، ومنهم أستاذي الدكتور أبو القاسم سعد الله..
وقد حبّب إليّ وادي سوف ما كتبه عنه الإمام عبد الحميد ابن باديس، وهو: “لما ارتفعت دعوة الإصلاح بالجزائر مان في طليعة رجالها نُبهاء من أبناء “سوف” المثقفين وعلمائها المستنيرين، فدعوا إخوانهم بسوف إلى كتاب الله وسنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وما كان عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين، والخلف الصالح من أئمة المسلمين، وإلى التواصل والاتفاق، وطرح التقاطع والافتراق، فاستجاب لهم كثير من أهل سوف، وتلقوا دعوة الإصلاح بذلك الإيمان القوي، واليقين الثابت، والتّدينّ المتين(1)”.
لقد أشرف على افتتاح الملتقى السيد الوالي – رغم الظروف السائدة – والسيد مدير الشؤون الدينية اللذان ألقيا كلمتين طيّبتين تدلاّن على طيب نفسيهما، وخلو صدريهما من الغلّ لجمعية العلماء، كما هو حال بعض من علمتهم الجمعية “الرماية” فرموها، وعلّمتهم الكلام فهجوها، وما ذلك إلا لسوء أنفسهم.
وقد أطر هذا الملتقى في جانبه العلمي ثلّة من الأساتذة الأفاضل: عبد الحليم قابة، عبد الحفيذ بورديم، عبد الله العريبي، محمد الهادي الحسني، محيي الدين درويش، عبد المجيد بيرم، خالد إسماعيل. وخصص يوم الاثنين (1 أفريل) للنساء.
لقد طلب مني الإخوة المشرفون على الملتقى أن أتناول موضوع “الحرية في الإسلام من منظورجمعية العلماء”، فاستحسنت اقتراحهم، لأبيّن للشبان – قدر طاقتي ومعرفتي- المكانة والأهمية التي تحظى بهما الحرية في فكر جمعية العلماء، والجهد والتضحيات التي بذلتها الجمعية في سبيل استعادة هذه “الحرية المحبوبة” حسب تعبير الإمام ابن باديس.
هناك طائفتان من الجزائريين سمّيتُ إحداهما “محتكري الوطنية”، وسمّيتُ أخراهما “مُدّعِي الوطنية”، وهما طائفتان تختلفان في كل شيء، وتقول كل طائفة في الأخرى ما قالته اليهود والنصارى في بعضهما؛ ولكن هتان الطائفتان تتفقان على شيء وحيد هو أن الحرية لم تخطر لجمعية العلماء على بال، ولم تسرح لأعضائها في خيال، ولم تَسْعَ لها بأية حال ولم تكن – كما يقول العرب- “لا في العير ولا في النفير”، ولا يقول هذا إلا جاهل أو حاسد، ولا يصدّقه إلا من سَفِهَ نفسه أو فقد عقله.
إن مؤسسي جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وأعضاءها الأبرار لم ينسلخوا من آيات الله التي آتاهم، ولم يركنوا إلى الذين ظلموا، ولم يخونوا الله ورسوله وأماناتهم وهم يعلمون، ولم يشتروا بآيات الله ثمنا قليلا، ولم يحرفوا الكلم عن مواضعه، ولم يتخذوا الفرنسيين أولياء… ولهذا أتحدى أي شخص أن يأتي باسم أحد من أعضاء جمعية العلماء اتخذه الفرنسيون سُخْرِيًّا سواء قبل إعلان الجهاد في 5 ربيع الأنور 1374 هـ (1 نوفمبر 1954م) أو بعده.. لقد علم الله في قلوبهم خيرا فربط عليها، وعلم في أقوالهم صدقا فَثَبَّتَهُمْ بالقول الثابت، وعلم في سعيهم إخلاصا فثبّت أقدامهم فلم تزلّ، وأحدّ أبصارهم فلم تزغ، وأرشد عقولهم فلم تضلّ… ولهذا لم يكتب التاريخ أن أحدا من أعضاء جمعية العلماء كان مصابا بما سماه إمامهم محمد البشير الإبراهيمي “القابلية للاحتقار”، أو بما سماه المفكر ابن نبي “القابلية للاستعمار”، فرحمهم الله، ورضي عنهم، وأرضاهم، وجعل أسماءهم للخلود، وأرواحهم للخلد.
إنه ليس لأعضاء جمعية العلماء اْلِخيَرَةُ في أن يكونوا مع الحرية أو ضدها، لأن مرجعيتهم هي الإسلام وهو “دين التحرير العام.. بدون تحفظ ولا استثناء، لأنه الحق الذي قامت شواهده، وتواترت بَيِّنَاتُه، ومن شواهده وشهوده تلك الأجيال التي صحبت محمدا، وآمنت به، واتّبعت النور الذي أنزل معه، ثم الذين صحبوهم، ثم الذين اتبعوهم بإحسان..(2)”.
لقد كانت مرجعية الأحزاب والجمعيات الجزائرية هي “الأدبيات الفرنسية”، ولذا كان فهم أعضاء تلك الجمعيات والأحزاب للحرية ناقصا، وكثير منهم يحاربون إلى الآن ثوابت الأمة من دين، ولسان، وتاريخ.. فأية حرية لمن لا دين له، ولا لسان، ولا تاريخ.. حتى إن أحدهم قال قبل أن يعيده العلماء إلى الرشد: “أنا فرنسا” وقال آخر: “نحن لاتينيون”، واعتبر أحدهم هذه الثوابت “طابوهات” فراغ عليها هدمًا وثَلْمًا.. وقد كان الفرنسيون يردون على مناضلي تلك الأحزاب والجمعيات، عندما يطالبونهم حتى بتلك الحرية المنقوصة؛ يردون عليهم بما معناه: “بضاعتنا رُدّت إلينا”…
بينما كانت مرجعية “العلماء” هي الإسلام كما أسلفت، وما ينبغي أن تكون لهم مرجعية غيره، فقد كتب الإمام ابن باديس تعليقا على أول خطبة ألقاها الخليفة أبو بكر الصديق بعدما استنبط منها ثلاثة عشر مبدأ في كيفية اختيار الأمة لحاكمها، ومحاسبته؛ جاء فيه: “هل كان أبو بكر ينطق بهذا من تفكيره الخاص وفيض نفسه الشخصي؟ كلاّ! بل كان يستمد ذلك من الإسلام، ويخاطب المسلمين يوم ذاك بما علموه، ولا يخضعون إلاّ له، ولا ينقادون إلاّ به، وهل كانت هذه الأصول معروفة عند الأمم فضلا عن العمل بها؟ كلا! بل كانت الأمم غارقة في ظلمات من الجهل، والانحطاط، ترسف في قيود الذل والاستعباد تحت نير الملك، ونير الكهنوت، فما كانت هذه الأصول – والله إذن- من وضع البشر؛ وإنما كانت من أمر الله الحكيم الخبير (((3)”.
لقد كان رأي جمعية العلماء الصائب وعملها الدائب هو تحرير العقول والأذهان أولا، “وإذا حررنا أرواحنا وعقولنا فقد حررنا كل شيء (4)” ولأنه كما يقول الإمام الإبراهيمي: “محال أن يتحرر بدن يحمل عقلا عبدا” “فإذا لم تتحرر العقول والأرواح من الأوهام في الدين وفي الدنيا كان تحرير الأبدان من العبودية والأوطان من الاحتلال متعذرا أو متعسرا، حتى إذا تم منه شيء اليوم ضاع غدا، لأنه بناء على غير أساس والمُتوهِّم ليس له أمل فلا يرجى منه عمل (5)”.
كانت جمعية العلماء تؤمن أنه لا يمكن أن تتحرر الجزائر قبل أن يتوحد أبناؤها في مواجهة عدوهم الفرنسي، ولهذا دعا الإمام ابن باديس الجزائريين إلى أن “كونوا جبهة متحدة لا تكون المفاهمة إلا معها (6)”، كما دعا الإمام الإبراهيمي وسعى إلى توحيد الأحزاب فتتوحد الأمة لتوحدهم (7).
لم تكتف الجمعية بالدعوة إلى الاتحاد باللسان؛ بل سعت في ذلك عمليا، وإليها يعود الفضل في تجميع أغلب الجزائريين في “المؤتمر الإسلامي” (1936) وفي البيان الجزائري (1943)، وفي “الجبهة الجزائرية للدفاع عن الحرية واحترامها” (1951).
وأما مؤسسات الجمعية فكلها موصوفة بالحرية، فمدارسها حرة، وصحفها حرة، ومساجدها حرة، ونواديها حرة، ومعلموها أحرار، وأئمتها أحرار.. وذلك حتى تألف الآذان كلمة الحرية، فتتطلع إليها النفوس، وتتشوف إليها العقول، وتتعشقها القلوب، فتسعى إلى تحقيقها ونيلها الأيدي..
ولم تقتصر الجمعية على الإشادة بالحرية والدعوة إليها؛ بل تجاوزت ذلك إلى الدعوة إلى القوة لاسترجاع حريتنا، فقد كتب الإمام ابن باديس في نشيده الخالد:
يا نشء أنت رجاؤنا وبك الصباح قد اقترب
خذ للحياة سلاحها وخض الخطوب ولا تهب..
وكتب الإمام الإبراهيمي يقول: “إن الحقوق التي أخذت اغتصابا لا تسترجع إلا غلابا (8)”، وخطب في باريس في آخر سنة 1951 قائلا: “لقد مضى عهد اللسان وجاء عهد السّنان..(9)”.
والذي نفسي بيده، لقد سألت الأستاذ عبد الحميد مهري – رحمه الله – إن كان في أدبيات حزب نجم شمال إفريقيا، وحزب الشعب، وحزب حركة الانتصار للحرية إشارة إلى استعمال القوة لاسترجاع الحرية، فأجاب بأنه لا يذكر ذلك، فإذا كان سي مهري – وهو من هو- لا يذكر، فمعنى ذلك أنه لا يوجد شيء من ذلك..
فسلام على جمعية العلماء يوم أسسها – على تقوى من الله ورضوان- الأخيار، ويوم نوى إطفاء نورها الأشرار، ويوم بعثها الأبرار، ويوم يعلي صرحها الأحرار.
وأنصح لأبناء جمعية العلماء من الجيل الجديد أن يطلعوا على تراث الجمعية حتى إذا تقول عليها متقوّلٌ قذفوا باطله بحقهم فيدمغه فإذا هو زاهق..
“فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض”، وسلام على الأحبة في سوف العلم والمجد..
.
هوامش:
1) آثار الإمام ابن باديس: 5 / 159 – 160
2) آثار الإمام الإبراهيمي: 4 / 375
3) آثار الإمام ابن باديس: 4 / 365
4) المرجع نفسه: 4 / 443
5) آثار الإمام الإبراهيمي: 4 / 344
6) آثار الإمام ابن باديس: 6 / 168. وماذا فعل الجزائريون في 1954 غير هذا.. ورحم الله أبا الطيب المتنبي القائل:
الرأي قبل شجاعة الشجعان هو أولٌ وهي في المحل الثاني
7) انظر آثار الإبراهيمي.. ج3
8 – 9) آثار الإبراهيمي.. ج5
الشروق أونلاين/الخميس 4 أفريل 2013 ميلادي الموافق لـ 23 جمادى الأولى 1434 هجري