وداعا أحمد شقار الثعالبي أيها الأديب الأريب/محمد دراجي
عرفت المرحوم الشيخ شقار الثعالبي في نهاية ثمانييات القرن الماضي، وذلك بمناسبة ندوة فكرية أقامتها وزارة الشؤون الدينية في قاعة ابن خلدون، حول موضوع الإسلام والمرأة، وذلك أن أحد المأزومين حضاريا، ألقى يومها خطابا ناريا حول الإسلام والمرأة، وكان المد الإسلامي في أوجه، وزعم بأن ما يسمى بحقوق المرأة هو خرافة، وبدعة غريبة زحفت على المجتمعات الإسلامية وهي مخالفة للشرع الحنيف، والدليل على هذا الذي يقوله هو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ}النمل18
واهتمت الصحافة كثيرا بهذا الخطاب، وقدمته على أنه النموذج الإسلامي المنتظر، فنظمت تلك الندوة لرد الأمور إلى نصابها، وكنت على صغر سني يومها، وقلة بصناعتي في العلم وضحالة تجربتي في الحياة أحد المتدخلين في هذه الندوة، وركزت على الرؤية الباديسية لموضوع المرأة، وكيف أنها رؤية شرعية مؤسسة على فهم عميق لنصوص الشريعة، وإدراك دقيق لمقاصدها الأساسية، راعت قطعيات الشرع وثوابته، وانفتحت على التطور ومستلزماته.
ويومها كان الشيخ المرحوم أحمد شقار الثعالبي أحد المعقبين، وقد شدني إليه بفصاحته في الأداء، وغزارة المعلومات، وسعة الاطلاع، إذ استشهد بأقوال كثير من المؤرخين الغربيين المنصفين الذين أكّدوا بأنّ الحضارة الغربية تعلّمت مسألة احترام المرأة من الحضارة الغربية الإسلامية.
وعند تجديد أو إعادة بعث نشاط جمعية العلماء في نهاية تسعينيات القرن الماضي، وقد أكرمني الله تعالى أن أكون أحد الأعضاء العاملين فيها، أتيحت لي فرصة التقرب والتعرف أكثر إلى شخصية شاعرنا المفلق، وأديبنا الأريب الشيخ أحمد شقار الثعالبي، وكانت الرحلات العديد، والجولات المفيدة، التي كانت تقودنا إلى مختلف أنحاء القطر، وجهات الوطن فرصة –وأيما فرصة- للاستمتاع بأحاديثه التي لا تُملّ، والتي كانت أحاديث كلها ثقافة وفكر، وأدب وتاريخ، ومن جملة ما اكتشفته في الرّجل وكان هذا مثار إعجابي به، شغفه الكبير بالمطالعة، وتلهفه لمواكبة الجديد من الكتب، فإنه إذا عرف أنّك تملك كتابا مفيداً، فإنه يظل بك حتى تعيره إياه، ثم إذا أعرته إياه لك أن تقرأ الفاتحة على كتابك، وتيأس من عودته إلى مكتبتك، وكان معاصروه، وعارفوه ينقلون عنه هذه المقولة: “إن الأبله هو من يُعير كتاباً له، والأبله منه هو من يرد كتاباً أعاره”. ومن قديم كان للعلماء مواقف لا تحمد مع إعارة الكتاب وردّه، حتى أفتى كثير من فقهاء المذهب الحنفي على وجه الخصوص، بجواز اختلاس الكتب، ولو أنّ الشيخ الإمام محمد عبده رفض هذه الفتوى، وقال فيها مقولته الشهيرة: “ما ضرّ العلم مثل هذه الفتوى”.
وفي العصر الحديث يحدثنا الأستاذ الإمام الشيخ محمد البشير الإبراهيمي عن العلاّمة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، أنه كان يحتكر نسخة تفسير المرزوقي لديوان الحماسة لنفسه، مع أنه ملك لمكتبة الجامع المعمور.
وقد بلغ من شغف بل ووَلَهِ شاعرنا بالكتاب أنه أنشأ مع ثلة من أمثاله الشغوفين بالكتاب واقتنائه، ناديا أسموه “نادي أحباب الكتاب”، وكان من أعضائه الشيخ أحمد سحنون القائل في حق الكتاب:
جليسي الكتاب أبرّ الصحاب به قد جنيت الأماني العذاب
فكيف أنـام وحـولي كتبي وفي النوم أفقد دنيا الكتـاب
وبيت بغيـر كتـاب بـه تطيب الإقامة به بيت خراب
وقد حدّثني الشاعر المرحوم أحمد شقار الثعالبي بأن فضل الشيخ سحنون عليه كان كبيرا، وأنه هو الذي حدّد له مساره الأدبي، واتجاهه الفكري، الذي سلكهما فيما بعد.
وكان الشاعر المرحوم أحمد شقار الثعالبي شديد الغيرة على اللغة العربية، حريصا على سلامتها حين الاستعمال، وأذكر أنني قدمت له ذات يوم شخصاً بأنه محام، فقال لي هذا خطأ لغوي، فقل فلان المحامي، كما كان –رحمه الله- حريصا على تصحيح الأخطاء التاريخية المتعلقة بالحركة الوطنية عموماً، وتاريخ جمعية العلماء على وجه الخُصوص، فلما كتب أحدهم عن المرحوم مولود قاسم نايت بلقاسم مقالاً ذكر فيه قصة الدّيك المشهورة عنه، فانبرى أحمد شقار الثعالبي لتفنيد هذه القصة، وبيان كذبها، بأسلوب علمي، ولكن كاتب المقال سارع إلى الردّ عليه بما يتناول شخصه بأسلوب مقذع، فاستاء كثيرا من هذا الانزلاق الفكري، والانحدار الخلقي.
ولقد سأله مرة المدير المسؤول ورئيس التحرير عن رأيه في مقالاته التي يفتتح بها الجريدة، وكان هذا المدير المسؤول يعتقد بأن أدباء العرب مجتمعين، لن يرقوا إلى كتابة مقالة في مستوى مقالاته، ولكن صراحة الأديب أحمد شقار الثعالبي دفعته إلى أن يصارحه بأن المستوى اللغوي والبلاغي للمقالات هزيل، فأغضبت هذه الصراحة ذلك المسؤول.
وللحق والتاريخ فإن العمود الذي كان يكتبه أحمد شقار الثعالبي في البصائر، كان مدرسة ثقافية مفتوحة لمن يريد أن يستكمل تحصيله العلمي، وأن يرفع من مستواه الأدبي، وأذكر أنه كان يأتي فيه ببعض الشواهد الشعرية النادرة التي تدل على اطلاق عميق على الأدب، وغوص في كتب التراث، من مثل:
مشت فوقه رجلاه والرأس تحته فكب الأعالي بارتفاع الأسافل.
رحمك الله يا أيها الأديب الأريب، وجعل الجنّة مثواك.