لماذا نهمش كفاءاتنا…؟/الدكتور فارس مسدور
وقع بين يدي ملف السيرة الذاتية لأحد علماء الجزائر العالميين البارزين في مجال تقدير كفاءة الكمبيوتر وشبكات الأنترنيت، نشر خمسة كتب علمية في مجال تخصصه، و130 مقال في مجلات علمية وعالمية محكمة، وقدم أكثر من 250 مداخلة في مؤتمرات عالمية في الدول المتطورة، درَّس وحاضر في أرقى الجامعات العالمية، وشغل بها مناصب علمية مرموقة، بالإضافة إلى رصيد علمي زاخر يشهد له كبار العلماء عبر العالم، فقرر هذا العالم أن يدخل الجزائر بعد خطاب لرئيس الجمهورية يطلب فيه من كفاءات الجزائر المقيمين في الخارج أن يرجعوا إلى الجزائر ولهم نفس المزايا التي تقدم لهم في الجامعات ومراكز البحث التي يشتغلون بها حاليا دون أن ينقص من أجرهم وقدرهم مقدار أنملة، فما كان من عالمنا إلا أن استجاب وراسل الوزارة المعنية طالبا الالتحاق بإحدى الجامعات في الوسط، فكان الجواب كالصّاعقة، حيث قيّمت شهاداته التي تحصل عليها بمنحة من الدولة الجزائرية ورصيده العلمي المذكور أعلاه بأن أعطي رتبة أستاذ مساعد، وكأنه دخل الجامعة حديثا…
لقد صدمني ما حصل لهذا العالم الجزائري وللعديد من أمثاله ممن أرادوا الدخول لخدمة وطنهم، وأدركت أننا حقا بلد طارد للكفاءات، وفهمت لماذا هاجر منها 215.347 كفاءة خلال العشرية الماضية، وما زال النزيف مستمرا في مجال هجرة الأدمغة الجزائرية التي أنفقت عليهم الدولة الجزائرية أموالا طائلة لتكوينها ثم في النهاية يستفيد منها الآخر دون أن يستثمر فيها دولارا واحدا.
ونظرت إلى عدد من النماذج الشاذة التي شوّهت سمعة الجامعة، ممن لم يتحصلوا على الباكالوريا ودخلوها لا ندري كيف دخلوها (العجيب دخلوا مباشرة إلى الماجستير) وقدموا أطروحات مسروقة من عدد محدود من الكتب، بل تدرجوا في السلم الأكاديمي بمداخلات ومقالات مسروقة من طلبتهم الذين أشرفوا عليهم في الماجستير والدكتوراه، بل أحيانا حتى بالبحوث الصفية، وسرقات من جامعات (كجامعة غزة الإسلامية)، وينشرون مؤلفات في الأردن على أنها كتبهم وهي عبارة عن أطروحات ماجستير نصّبوا أنفسهم مؤلفين مشتركين مع طلبتهم، بل الأدهى والأمر يشغلون مناصب علمية مرموقة دون أن يردعهم أي رادع، ويتمادون في تحطيم الكفاءات العلمية النزيهة من الأساتذة والباحثين بتصرفاتهم القذرة التي تنبئ عن حقد ومرض نفسي نابع من خوفهم من إعادة فتح تحقيق معمق في ملفاتهم واكتشاف أمرهم وزيف شهاداتهم…إنها الرداءة الشاذة التي برزت وعشّشت في عدد من الجامعات، بل أن الإشكال وصل إلى العلوم الخطيرة كالطب الذي يعتبر مجالا كاشفا للمزيفين ولو بعد حين، لكن بعد أن يقع الفأس في الرأس وفقد أرواح الناس…
لو تأملنا بين الكفاءة الأولى والقذارة الأخيرة لأحسسنا بالغثيان، نتيجة المعاناة اليومية لكل كفاءة علمية (في الداخل والخارج) تعاني من التهميش والقهر، من أناس انتقلوا من إفساد الحياة الاقتصادية إلى إفساد الحياة العلمية التي كان يفترض أن تكون أطهر المجالات نتيجة الحواجز العلمية التي تتميز بدقة التقييم، غير أن الأدوات التي استخدمت منذ بداية التسعينات تسلل إليها أو منها الكثير من النماذج الزائفة التي أوهمت المجتمع والإدارة بكفاءتها الزائفة والمغشوشة، لذا عندما عششت هذه الكفاءات الزائفة أصبحت مثل العملة الرديئة التي تطرد العملة الراقية.
فكيف نتخيل تطوير بلادنا ونحن نضع أمثال هذه النماذج الشاذة في مناصب لتقف في وجه علمائنا بالداخل والخارج، وتحاول تشويه سمعتهم وحرمانهم من الدخول لخدمة الأمة والوطن بعلمهم ومعارفهم وملكاتهم التي اكتسبوها، ويريدون الرجوع بها إلى الجزائر، التي يعشقونها ويعشقون خدمتها.
الإشكال أنه حتى بعد المصالحة الوطنية والوئام المدني، ما يزال عدد من علماء الجزائر (في مجالات علمية نادرة كالفيزياء النووية) محرومين من الرجوع إلى الجامعة الجزائرية، وكأنهم مجرمين من الدرجة الأولى يخشى على الجامعة منهم، بل إن منهم من يعيش فقرا مدقعا وهو حاصل على درجة بروفيسور في مجال تخصصه.
لقد قرأت مرة أنه في أزمة النمور الصغيرة سنة 1997 جمع الرئيس الماليزي “مهاتير محمد” كل علماء وخبراء ماليزيا في مجال الاقتصاد، وطلب منهم أن يتدبروا أمر إخراج وتجنيب ماليزيا آثار الأزمة الاقتصادية آنذاك، ورفض رفضا قاطعا أن يتدخل صندوق النقد الدولي في حل أزمتهم، وفعلا تمكن هؤلاء العلماء من إنقاذ بلدهم، وها هي ماليزيا اليوم من التسع دول الأكثر تطورا ونموا في العالم.
أين يكمن السر الماليزي، وأين يكمن السر السنغافوري، وأين يكمن السر الألماني؟ السر الذي لا يعتبر سرا أمنيا مخفيا يكمن في أن هؤلاء الناس يعرفون قيمة علمائهم، فلم يهمشوهم، ولم يحتقروهم، ولم يعطوهم الفتات بل يعتبرون العالم أرقى عنصر بشري ويعطى الأجر الأعلى في الدولة، بل يستقطبون أرقى الكفاءات العالمية ويعطونها أفضل ما يعطى لها في كافة أنحاء العالم، إنهم يدركون أن المادة الرمادية لا تقيم بالمال.
العجيب أن في بلد مضى عليه خمسون سنة تعطى الحلاقة وحتى الذين لم يتحصلوا على شهادة التعليم الابتدائي أجرا مضاعفا على أجر البروفيسور في الجامعة، ويكاد يقل أجر الأستاذ المساعد أجر أستاذ في الابتدائية أو الإكمالية (مع احترامنا لكل أساتذتنا)، بل إن من علماء الجزائر من يتسول لعلاج ابن له يكاد يموت بين يديه، وأحيانا يعيش متنقلا من سكن إلى سكن نتيجة الكراء.
إننا لم نقم فقط بتهميش كفاءاتنا، بل تفنَّنَّا في إذلالها واحتقارها، ونوحي إلى الناس أننا قمنا ونقوم بإعادة الاعتبار لها، لكن الأرقام أصدق أنباء من التصريحات السياسية الجوفاء الخالية من الصدق والمصداقية، ونستمر في الكذب على أنفسنا ونوهمها أننا قدّرنا الكفاءات، لكن الحقيقة أننا قهرنا الكفاءات وقتلناها (بالقنطة)، وتركناها تموت ببطئ شديد، تتجرع مرارة الظلم، ظلم الشواذ المنتسبين كذبا وزيفا للجامعة.
إذا أردنا أن نعيد الاعتبار لكفاءاتنا في الداخل والخارج يجب أن يتولى العلماء الحقيقيون أمر العلم والتعليم في جامعاتنا ومراكزنا البحثية، وأن يكون لنا المجلس الوطني الأعلى لعلماء الجزائر، كل في مجال تخصصه، توكل إليه مهمة التخطيط لتطوير الجزائر بعد خمسين سنة من الاستقلال، المهم والأهم أن يكون خاليا من المزيفين وسراق البحوث، وأن لا يتحكم فيه السياسي، فيكون فوق أي سلطة مهما كانت، لأن سلطة العلم فوق أي سلطان…
الدكتور فارس مسدور