الجرح والتعديل والرد على المخالف/ الشيخ يحيى صاري
هذا العلم الشريف المنيف الذي يعتبر من مفاخر الأمة الإسلامية ومن خصائصها، تلاعب به بعض الناس في هذا الزمان تلاعبا خطيرا، واستعملوه في غير محله، وجعلوه مطية لِسَبِّ الفضلاء من أهل العلم والأئمة، وتحقيرهم، وتتبع زلاتهم، والتشهير بهم، وتأليب الشباب عليهم، ونفث الكراهية والبغضاء تُجاههم، وصار السَّب والشتم والفحش والبذاءة تحت مظلة هذا العلم الشريف: نُصْحا وردودا ودينا ومنهجا!!
فكم سال من حِبْر على صفحات الجرائد والكتب ومواقع الأنترنت، وهو يقطر سوءا وكراهية وبغضا وحقدا، على الفضلاء والعلماء والأئمة والخطباء..
وإليك أخي القارئ نموذجا من تلك الكلمات البذيئة والألفاظ التي تحمل كل معاني الاحتقار والاستهزاء، التي استعملت باسم النصيحة والرد على المخالف عبر صفحات الأنترنت والجرائد والكتب، وهي موجهة لأناس فضلاء، وخطباء مساجد، أو لعلماء مشهود لهم بالعلم والفضل:
– “ما أظلمك وأكذبك وأشدّ بَغْيَك أيها الرجل وأعظم تلبيسك وأكبر افتراءك”.
– “هؤلاء لا يَقْمَعُهم إلا السيف والسجون والمطاردات”.
– “لا أرى شراً منهم الآن لا تجد طائفةً حتى في الكفار أسوأ من هذه الطائفة وأقل أدباً وأسوأ أخلاقاً لا أستبعد أن في أوساطهم زنادقة يحاربون الإسلام”.
-” السفيه كبير سفهاء الحزبيين”.
– “وهو أخبثهم وأوقحهم”.
– “فهو من أكبر المنافقين وكبير شياطين الفكر التكفيري”.
– “كلب السوق”.
– “حمار القات”.
– “خذوه إلى برميل القمامة”.
– “يا أيها البغل”.
– “أيها العجل”.
– “خبيث مُـخَبَّث”.
– “كلب كبير”.
– “أخبث من هو على وجه الأرض”.
– “لألطمنك لطمة لا تقوم بعدها أبدا”.
فهل هذا معجم في ألفاظ الجرح أم قاموس في البذاءة والفحش والفجاجة!!
وهل مثل هذا الكلام يستقيم أن يُوَجَّه لمسلم، فضلا أن يُرْمى به العلماء والأئمة والفضلاء؟
والقائمة طويلة مما لا أستطيع أن أذكره في هذه الصفحات من القوارص والشتائم والفحش. والله المستعان.
رد شبهة: قد يقول القائل لقد صدرت بعض الكلمات الشديدة على المخالفين من بعض السلف – والتي يعرفها أكثر أفراد هذه الجماعة – لأنهم من أكثر الناس عناية بألفاظ التجريح، وكلمات التعيير.
والجواب من ثلاثة وجوه:
الأول: أن الأصل هو اجتناب الفحش والبذاءة، لأن الله عز وجل وصف نبيه صلى الله عليه وسلم بحسن الخلق فقال:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}[القلم: 4] وقال عز وجل:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}[آل عمران: 159] وفي الأدب المفرد عن أنس رضي الله عنه قال:(لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشاً، ولا لعاناً، ولا سبّاباً، كان يقول عند المعتبة: “ما له تَرِبَ جَبِينُه“).
وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم:(سِبَابُ المسلِم فُسوق وقِتَالُه كُفْر).
وفي صحيح البخاري عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَالَ فِي المسجد فَثَارَ إِلَيه النَّاس لِيَقَعُوا بِهِ فقال لَهُمْ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:(دَعُوهُ وَأَهْرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ ذَنُوبًا مِن ماء، أَوْ سَجْلاً مِنْ مَاءٍ – فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ).
الثاني: أن الاقتداء إنما يكون بالنبي صلى الله عليه وسلم، لقول الله عز وجل:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}[الأحزاب: 21]، ومن صدر منه ما يخالف ذلك، فلا يُقتدى به فيه.
ففي صحيح البخاري عن المعرور لقيت أبا ذر بالرَّبَذَة وعليه حُلَّة وعلى غلامه حُلَّة فسألته عن ذلك، فقال: إِنِّي سَابَبْتُ رَجُلاً فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ، فَقَالَ لِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:(يَا أَبَا ذَرٍّ أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ.. الحديث). فتأمل كيف عاتب النبي صلى الله عليه وسلم هذا الصحابي الجليل، وأنكر عليه سبه لذلك الرجل، وذكر له أن هذا السب من أعمال أهل الجاهلية.
الثالث: أن أمثال هؤلاء العلماء من سلفنا -رحمهم الله- الذين صدر منهم بعض الألفاظ الشديدة، لم يكن ذلك منهجا عاما لهم، ولم يكن السَّب والشَّتم، هو ديدنهم ومذهبهم في التعامل مع المخالف، كما نلحظ اليوم على الكثير ممن يزعمون أنهم يقومون بواجب الرد على المخالفين، حيث قَلَّ أن يردوا على مخالف إلا وتجد الألفاظ المستهجنة تغلب على كتبهم ومقالاتهم. فتأمل وقارن بين منهج النبوة وبين هؤلاء.