أيام مباركة مع الشيخ الغزالي /د. نجيب بن خيرة

بمناسبة الذكرى السابعة عشرة لوفاة العلامة الشيخ محمد الغزالي إخترت لكم أول مقال في حياتي نشرته في الصحافة الوطنية في شهر جوان 1988 بحريدة المساء بمناسبة مغادرة الشيخ الغزالي للجزائر . وكنت حينها طالبا في السنة الثانية بجامعة الأمير عبد القادر . بقسنطينة
أيام مباركة مع الشيخ الغزالي
بقلم : الطالب : نجيب بن خيرة
إن الحديث عن الشيخ الغزالي حديث تأنس إليه النفس ويشرق به القلب ، ويصفو به الفؤاد ، لأنه حديث عن ورثة الأنبياء وعن همزة الوصل بين الأرض و السماء .. وما كان ينبغي لمثلي أن يتحدث عن العظماء ، وعن الرجال الأكابر ..ولكنها لعمري خفقة قلب ملتاع ، وفؤاد محب للعلماء مُجلِّ لقدرهم ، متصاغر أمامهم متطامن بين يديهم.
وكيف لا ؟ و الشيخ الغزالي هو عنوان الجامعة الإسلامية ، ورمزها الخفاق الذي لاح في أفقها ، فهرع طلبة من خيرة شباب الجزائر إلى هذه الجامعة يوم أن فتحت أبوابها كما يهرع الظامئ العطشان إلى حوض الماء العذب يروي ظمأه ، ويفثأ غُلّته .
لقد كان قدوم الشيخ الجليل إلى هذا البلد الطيب الذي نضب معين العلم فيه ، وجفت ينابيعه ، فاتحة خير على هذا الشعب الذي ما فتئ يضج بالضراعة ، ويئن من الألم ، وهو يدفع عن نفسه ضربات الاستعمار الصليبي العتيق ، وهجوم السيل الأحمر الجارف ، قصد سلخه من ذاتيته ، واستئصاله من قراره المكين ، ووضع الأغلال في يديه كي يساق إلى حتفه كما تساق المطية الذلول .
انطلق الشيخ الجليل في هذا البلد يذود عن حياض الإسلام بكل ما أوتي من قوة الشيخوخة المباركة التي تُلحُّ عليها الأسقام من كل جهة ، وراح يسعى لتجفيف المستنقعات الفكرية الحمئة التي خلفها الغزو الاستعماري أيام كان جاثما على صدر هذا البلد ، يحصي عليه الأنفاس ويتربص به الدوائر. و الشيخ يعلم أن هذه البقعة من العالم العربي والإسلامي مستهدفة قبل غيرها ، وذلك لما تعُج به من طاقات جبارة ، ومعادن نفيسة صلبة ، ولكنها لم تجد من يرعاها ويحركها ويصنعها على عينه فينفي عنها الدخل ، وينفخ فيها من روحه ، فإذا هي شهاب راصدة تلمع في إيهاب الليل ، وتسطع في سدفة الظلام الحالك .
انبرى الشيخ الجليل لهذه المهمة العظيمة ـ و العظائم كفؤها العظماء ـ معتمدا على ربه ، واثقا في نصره ، بعُدّة العالم العارف بما عنده وما عند غيره ، حتى ينساق بين الجماهير الذاهلة الغافلة ، يستنهض عواطفها الراكدة ، ومشاعرها المحنطة ، فتصحو بعد نوم ، وتحضُر بعد طول غياب !.
فتحرك بين الجامعات و المعاهد و المساجد و المراكز ، و حاضر في الملتقيات التي طالما شرُفت منابرها بصعوده عليها ، وكأني بها تقول :
قد زهى المنبر عجبا
أترى ضمّ خطيبا
إذ ترقاكم خطيباً
أم تُرى ضُمِّخ طيباً
إن الشيخ الجليل يعلم أن توصيل كلمة الله للناس سُنة في إبلاغ رسالاته ، “وما على الرسول إلا البلاغ المبين ” ، لذلك لم نجد الشيخ يوما ما يئس من دعوته أو كلّ من جهاده ، ولكنه يمضي دائما في بناء صرح المجد لأمته ، بعاطفة وقودها الإيمان الحار، واليقين الراسخ ، حتى يستوي البناء قائما شامخا عليه من روحه مُنشئه طابع وبرهان .
ما أمتع الأيام التي كنا نسعد فيها بمحاضرات الشيخ الجليل في مدرجات الجامعة .. يبدأ بمحاضرة يوم السبت في علوم القرآن ( من محاور القرآن الخمسة ونظراته الثاقبة فيها ، إلى المكي و المدني وردوده الداحضة لشبهات المغرضين ، إلى الناسخ و المنسوخ ورأيه الثابت فيه ، مرددا قوله:” أدلتي راسخة كالجبال….” . إلى غيرها من مواضيع علوم القرآن التي يعتبر الشيخ فيها مرجعا وحجة. وقاعة الدرس تغصُّ بالطلبة و الطالبات فلا ترى أعينهم إلا مشدودة إلى الشيخ كما يَشدُّ السراج المنير عيون الحائر في ظلام المحيط ..منهم من يحمل مسجلته يسجل فيها المحاضرة حتى يعاود الانتهال من النبع الفياض ، ومنهم من يلتقط كلمات الشيخ يحفظها في دفتره كما تحفظ الدرر النفيسة، فتكون محاضرة السبت زاد نتبلّغ به عناء أيام الدراسة حتى يوم الأربعاء ، فيلقي الشيخ درس التفسير الموضوعي الذي يعتبر الشيخ فيه مدرسة بل رائدا ، ينتقل بين موضوعات القرآن الكريم ( من المال في القرآن ، إلى المرأة في القرآن ..إلى غيرها من الموضوعات، مستشهدا في كل موضع بحشد من الآيات كأنه معها على ميعاد ، فيكون درس الأربعاء بحقٍ ( مغتسل بارد وشراب) ..
ولا أذكر يوماً أني حضرت محاضرة أخرى في حين يُلقي الشيخ درسه في مدرج الجامعة ، لأنني كنت أخشى أن يأتي اليوم الذي أقول فيه ..” إن التي ضيعتها كانت معي ..” . وقد أتى هذا اليوم .
فها هو العام الدراسي تمر أيامه ولكنها أشبه بأيام السنة الجدبة التي حرمت نعمة الماء ، وسُلبت بركة السماء ، أو ليس العلماء العاملون كالغيث أينما وقع نفع ؟ !
ومما غاضني أن نُحرم من الاتصال بالشيخ ، والاستزادة من نفعه عن قرب ، من طرف أناس لا يرون في الاتصال به إلا أن يتمسحوا على ثيابه كما يتمسح الجُنُب بطيب الحجر الأسود ، ولا يرون فضل الشيخ إلا عندما يأخذون لأنفسهم معه صورا تذكارية يُرَون فيها بجنب الشيخ ، وهم أبعد الناس عن كلامه ، وأشردهم عن تعاليمه وتوجيهاته ، بل إنهم أول من يضعون له العوائق و المعوقات وهو يسعى في طريقه إلى هدفه ، وفي سبيله إلى أداء واجبه ، ولكن ما ذنب الزهرة الفواحة عندما ينبتها القدر القاهر بين سفِّ الرمال و لفح السمائم .
إن وجود العلماء بيننا نعمة يجب أن تغتنمها الأمة فترتوي من نبعهم ، وتسترشد بفكرهم ، وخاصة من أمثال الشيخ الغزالي حفظه الله وأمدّ الله في عمره ، فهو صاحب موهبة فائقة ، وكفاية فريدة ،اصطفاها القدر لتسوق الأمة إلى ربها ،وتهديها إلى سبيله ، وتنفخ في طوايا نفوسها ، وتدقّ على أوتار قلوبها بروح يتوثب ، وإيمان يجيش ، ثم تُولي فتترك لهم الأسوة الحسنة التي تهتاج لها المشاعر المشبوبة ، وترمقها إلى الأبد بنظرات التِجلّة و الاقتداء والإعجاب و التكريم .
وقد ظهر ذلك منذ أن حلّ الشيح الغزالي بأرض الجزائر ، فقد اشرأبّت إليه النفوس المؤمنة ، وتأثّرت بفكره ، الذي يبثه من داخل أسوار الجامعة عبر ( حديث الإثنين) الذي يعدُّ من حسنات ( محطة الإذاعة و التلفزيون بقسنطينة) ، وقد رأيت أناسا أميين يصعب عليهم أن يفقهوا أسلوب الشيخ وطرائق كلامه لكنهم حريصون أشد الحرص على أن يتابعوا أحاديث الشيخ المرئية ، فيتلذذون بآي كتاب الله تنساب من فم الشيخ كما ينساب الماء السلسبيل من المعين الذي لا ينضب ، فضلا عن الطبقة المثقفة التي ترى في أحاديثه شحذا لهممها ، وتثقيفا لمناهج تفكيرها ، وصبّها في قالب إسلامي صحيح .
وكيف لا و الشيخ مدرسة في الدعوة إلى الله ، بأسلوب رائع رائق ، وأداء جيد معجب ، ينفذ إلى القلوب و العقول ، لأنه فكر راقٍ يجمع بين أحكام الشريعة ، ومقتضيات العصر ، أو بالأحرى بين الأصالة و المعاصرة ، بعقل العالم بأسرار التشريع ،الواقف على طبائع الخلق ، وعلل الجماعات .
لقد ظلّ الشيخ من يوم أن نذر نفسه لخدمة دين الله وسياسة دنيا الناس به ـ ” وممن خلقنا أمة يهدون بالحق و به يعدلون” ـ ينفي عن الدين العلائق التي ألصقت به ، ويزيل من على صفحة وجهه المشرق شوائب أذهبت صفاءه ، وسلبته رواءه الجميل ..لذا قال ابن مسعود رضي الله عنه : ” لايزال الناس بخير ما أخذوا العلم من أكابرهم ، فإذا أخذوه من أصاغرهم وشرارهم هلكوا ” ، لأن دين الله شُوِّهت حقائقه في ميادين كثيرة من طرف أناس قِصار الباع في فهم الأحكام و المقاصد وأسرار التشريع ، لذلك فالعلماء هم المرفأ الأمين الذي تحث الأمة السير نحوه .
فهو النجاة لمن أراد تخلصا
وهو الملاذ لمن أراد أمانا
لقد أحب المخلصون من الشعب الجزائري الشيخ الغزالي حبًّا غاليا ، وآية ذلك ما نطق به مصدر مقرب من الشيخ أن هناك خمسة آلاف رسالة وصلت إلى الشيخ الجليل من أنحاء القطر الجزائري تبادله عواطف الحب و التقدير والإجلال ، بله عن القصائد التي نظمها الطلبة و الطالبات في الإشادة بفضله و التنويه بجهوده وأعماله .
إن الدولة مشكورة عندما عرفت للشيخ فضله ، وحفظت له جميله ، وذلك بتكريمه بوسام ( الأثير) ـ أعلى وسام استحقاق في الدولة ـ ولست أرى إلا أن الوسام سوف يعلو قدره عندما عُلّق على صدر الشيخ العامر بأنباء الوحي الأعلى وهدي الصراط المستقيم .
ولئن وعد الشيخ الجليل أنه سوف يتردد على هذا البلد مثنى وثلاث ورباع ، فما ذاك إلا حرصا منه على تعهد زرعه الطيب الذي أودع الله فيه سرّ النماء والازدهار ، فإذا هو ينشئ أجيالا ، ويزلزل جبالا ، وإذا بالشعب يصحو على فجرٍ صبوح ، يرمق فيه بارقة مستقبل ثابت الأُس، شامخ الذُرى ، منيف الدعائم ..