تخطيط التنمية في الجزائر إلى أين؟/الدكتور فارس مسدور
مناطق عدة في بلادنا تشتكي من تهميشها وعدم استفادتها بعدالة من البرامج التنموية المعتمدة في بلادنا، والعجيب أنك عندما تتأمل تكتشف وكأن التنمية في بلادنا اختصرت في منطقة أو مناطق اسمها العاصمة وما جاورها، ولو أن بعض المناطق الداخلية بدأت تصلها نسمات التنمية حتى لا نقول رياحها.
عندما تدخل بعض المناطق الداخلية تكتشف أن الناس تعاني معاناة رهيبة خاصة في المجال الصحي، حيث يضطر الناس إلى التنقل إلى العاصمة للعلاج، وكأن المستشفيات التي بنيت هنا وهناك عبارة عن إسمنت مسلّح مزيّن بواجهات زجاجية، وكأننا فهمنا أن التنمية واجهات زجاجية كمبنى وزارة المالية، أو بنايات عثمانية كبناية وزارة الطاقة، والحقيقة أن التنمية أعمق بكثير من هذه المظاهر الخارجية الخداعة التي تخفي وراءها الكوارث (والفضائح تلو الفضائح) في المجال التسييري بشكل عام دون تخصيص، لأنني إذا خصصت فسأعمق من الصدمات التي تعرض لها المواطن خلال الأيام القليلة الماضية.
لماذا بعد خمسين سنة من الاستقلال ما زال الناس يتنقلون إلى مستشفى مصطفى باشا بالعاصمة، ومستشفى فرانتس فانون بالبليدة للعلاج من أمراض خطيرة كالسرطان، وأمراض أخرى غير خطرة؟ الجواب واضح ولا يحتمل خيارين: إننا لم نرتقي بالصحة التي تعتبر جزءا لا يتجزأ من التنمية إلى المستويات التي تجعل المواطن الجزائري يعالج في مدينته أو ولايته دون أن يضطر وهو مريض مرضا خطيرا إلى التنقل آلاف الكيلومترات بحثا عن أمل في العلاج، والأغرب أن حتى هذه المستشفيات لم تعد قادرة على أن تعالج الناس، نظرا لتدني خدماتها وعدم مواكبتها للتطورات الحاصلة في المجال الطبي في دول العالم، لا على المستوى النظري ولا حتى على المستوى التطبيقي، بل الذي يؤلمك أنها مستشفيات تركها المستدمر الفرنسي (عليه لعنة الله).
ما يقال عن تخطيط الصحة يقال عن تخطيط التعليم، فالعديد من مناطق الوطن الداخلية يقطع فيها الأطفال الصغار يوميا أكثر من خمسين كيلومترا للوصول إلى مدرسة إبتدائية أو إكمالية أو ثانوية، ومن أراد التأكد فليمش خلال أيام الأسبوع في الطريق الرابط بين المدية والأغواط يرى العجب العجاب.
وحتى تلك المناطق التي بنيت فيها جامعات بقيت تلك الجامعات عبارة عن بنايات بها عدد محدود من التخصصات كجامعة غرداية التي لا تحتوي سوى على أربع كليات، في حين أن عدد سكانها وعدد الملتحقين بالجامعة عدد كبير جدا يضطر الكثير منهم إلى التنقل آلاف الكيلومترات بحثا عن التخصصات التكنولوجية والطبية التي لا تحتوي عليها جامعتهم.
والذي يؤلمك أكثر أن ترى الجزائري المسكين الذي يسكن المناطق الداخلية ينتظر أمام الطريق السيار لعل شاحنة الغاز تمر فيشتري قارورة غاز واحدة وإلا فالحطب هو المخرج الوحيد له ولعائلته في أيام البرد القارصة، ناهيك عن المناطق المحرومة تماما من الكهرباء والمياه الصالحة للشرب، بل الذي يدهش أن تسمع وترى عائلات في الوسط دون غاز ولا كهرباء ولا مياه ولا حتى قنوات صرف المياه.
كل هذا ناجم عن غياب استراتيجية رشيدة وعادلة لتخطيط التنمية في بلادنا، إستراتيجية تجعل الناس لا يغادرون مناطقهم بعائلاتهم متجهين إلى العاصمة وما جاورها من ولايات قريبة جدا لعلهم يتمكنون من الحصول على الاحتياجات الأساسية التي توفر لهم عيشا قريبا مما يمكن أن يسمى في بلادنا حياة كريمة.
ما أحوجنا إلى مجلس أعلى للتخطيط في بلادنا، يخطط للتنمية العادلة وتقاسم ثروات البلد بين أبنائه بشكل لا يحرم أي منطقة من التنمية الحقيقية، ولا يجعل الجزائري يكره الجزائري الذي يعيش في الشمال، ولا يجعل الشمالي يحتقر الجنوبي أو الغربي أو الشرقي، ظنا منه أنه يعيش في الحضارة والآخر يعيش في التخلف.
ما أحوجنا إلى أناس يخططون لتنمية ثمان وأربعين ولاية وليس ولاية واحدة هي العاصمة، يخططون لأربعين مليون جزائري وليس لعشرة ملايين فقط، يخططون لتنمية 2.3 مليون كيلومتر مربع وليس لعشرة في المائة فقط من هذه المساحة.