من المستفيد من فشل تجربة التحول الديمقراطي؟!/عبد الحميد عبدوس
في أجواء من التسميم الإعلامي، والاحتقان السياسي، والتحريض على العنف، والمقامرة بدماء الشعب، مرت الذكرى الثانية لموجة الربيع العربي التي أشعلتها شرارة محمد البوعزيزي في تونس، وفتحت المجال لحراك شعبي واسع، زلزل عروش الطغيان، وأثار إعجاب العالم بقدرة الشعوب العربية، وخاصة فئاتها الشبانية على كسر طوق ثقافة الهزيمة، وتجاوز عوامل الخضوع والإحباط التي خيمت على الواقع العربي طوال عقود من الاستبداد، فرضتها أنظمة الرداءة والتبعية والتوريث السياسي.
ولكن بعد سنتين من الهبة الجماهيرية من أجل الحرية والكرامة في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن، وبعدها في سوريا، التي ما زالت تدق أبواب الحرية بكل بسالة وقوة وتصميم قواها الحية الثائرة، بدأ قطار التحول الديمقراطي يتعرض للتعطيل والتأخير والتخريب من طرف قوى الثورة المضادة، ومن الطيف السياسي والفكري العلماني الذي يسيطر في أغلب دول الربيع العربي على مفاصل الإعلام والمال، ويستفيد من شبكة التواطؤات والتحالفات الأجنبية، وخصوصا من دول الغرب المسيحي، والكيان الصهيوني، الذين يرون في الإسلام، وحملة فكرة النهوض الإسلامي، أعداء استراتيجيين، وخطرا داهما على استمرار الهيمنة والاستكبار الإمبريالي الصهيوني على العالم!
ولعل من المفارقات الصادمة في المشهد السياسي لإحدى أكبر دول الربيع العربي، وهي جمهورية مصر، التي كانت تعتبر في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك بمثابة “كنز استراتيجي” للأمن الإسرائيلي والنفوذ الأمريكي في المنطقة العربية، إن القوى السياسية التي كانت تقدم نفسها بأنها حاملة لقيم الديمقراطية والتغيير السلمي، ونبذ العنف، أصبحت بعد هزائمها الانتخابية المتتالية، وفشلها في اجتياز اختبار الصندوق الشفاف للوصول إلى السلطة، تستعمل العنف في صراعها السياسي مع خصومها الإسلاميين، أو أنها على الأقل توفر الغطاء السياسي للجماعات التي تمارس العنف خلالها المظاهرات والمسيرات والاعتصامات التي تدعو إليها وتنظمها تلك القوى على غرار تكتل جبهة الإنقاذ الوطني…وفي المقابل تقف القوى السياسية الإسلامية التي كانت توصف من طرف خصومها باستعمال العنف والتطرف الفكري، ورفض الحوار في صف المدافعين عن نبذ العنف، والدعوة إلى الحوار باعتباره الوسيلة المفضلة لحل الخلافات السياسية والتوصل إلى وفاق وطني يعيد تعبئة الطاقات الوطنية لتحقيق أهداف الثورة، والخروج من مأزق الاستقطاب والصدام بين شركاء الثورة، ولقطع الطريق أمام مناورات الفلول وبارونات المال الفاسد لإجهاض حلم الثورة، والنفخ في جمر الفتنة.
كان هذا الهدف، أي التوصل إلى وفاق وطني عبر الحوار، يبدو ممكن التحقيق بعد توقيع رموز قوى المعارضة والموالاة في مصر، إضافة إلى حركات شبابية ومشاركة هيئة كبار العلماء في الأزهر، وممثلي الكنائس المسيحية المصرية، على وثيقة الأزهر لنبذ العنف، التي أكدت على: “حرمة الدماء والممتلكات الوطنية والخاصة، والتفرقة الحاسمة بين العمل السياسي والعمل التخريبي”، وكذلك “إدانة التحريض على العنف أو تسويغه أو تبريره، أو الترويج له، أو الدفاع عنه، أو استغلاله بأية صورة”، ولكن سرعة تنصل بعض زعماء جبهة الإنقاذ الوطني المعارضة من التزاماتهم التي وقعوا عليها في وثيقة الأزهر التي نصت “على تجريم العنف وطنيا، وتحريمه دينيا”، أعطت دفعا جديدا لمسعى تعميم إستراتيجية الفوضى، وتصعيد الاحتقان، وعرقلة جهود استعادة الاستقرار.
في بداية سنة 2011 لم تتمكن قنابل الغاز المسيل للدموع، ولا خراطيم المياه ، ولا حتى رصاص الشرطة وطلقات القناصة، من تحريف ثورة الشباب المصري عن مسارها السلمي، أما اليوم فقد انقلبت الصورة تماما، وأصبحت قوات الأمن هي التي تبذل قصارى جهودها لتفادي المواجهة مع المتظاهرين وأفراد العصابات الملثمة التي تحترف العنف، وتحرق المقرات، وتهاجم قصور الرئاسة ووحدات الشرطة بزجاجات المولوتوف الحارقة ورشقات الحجارة، وتطلق النار على مظاهرات الإسلاميين، وتبقى المعارضة المصرية رغم هذه الأجواء المنذرة بالكارثة، تتهرب من استقاقات الحوار وتحمل الرئيس مرسي وجماعة الإخوان مسؤولية تردي الأوضاع الأمنية، وتدهور الحالة الاقتصادية، وتطالب باستقالة الرئيس، ولا تترك المعارضة العلمانية فرصة للرئيس مرسي وحكومته لاتخاذ إجراءات قانونية أو اقتصادية لإصلاح الوضع، فكل المبادرات التي أعلنها الرئيس مرسي قوبلت بموجة من الاحتجاجات والمظاهرات والإضرابات التي تزيد من توتير الأجواء، و تبديد رصيد الثقة بين الفرقاء، وزعزعة هيبة الدولة، وتنفير المستثمرين من ضخ أموالهم في الاقتصاد المصري، إضافة إلى بث الإشاعات وترويج الأكاذيب حول حتمية إفلاس مصر،واتسداد أفق الحل، وكأن النخب العلمانية بتشكيلاتها السياسية والإعلامية لم تصبح تميز بين هدف إسقاط النظام، والتسبب في انهيار الدولة!
لابد للملاحظ الموضوعي أن يقارن بين ما حدث –على سبيل المثال- يوم الجمعة الماضي (15 فيفيري 2012) في مظاهرة القوى الإسلامية التي نظمت تحت شعار “معا لنبذ العنف”، حيث نظم آلاف المتظاهرين تجمعا أمام ميدان الجامعة، بدأ سلميا وانتهى سلميا، وتخللته شعارات سلمية وتضامنية، وفي المقابل نظم بعض المئات من قوى المعارضة تظاهرة أمام قصر القبة الرئاسي، تحت شعار “كش ملك”، فبدأ التجمع مشحونا بعبارات القدح والتجريح، والجهر بالسوء من القول، وانتهى بمواجهات بين المتظاهرين وقوات الشرطة التي كانت ترد على مهاجمة المتظاهرين القصر الرئاسي بزجاجات المولوتوف ورشقات الحجارة، علما بأن مظاهرات المعارضة كانت تنظم في السابق أمام قصر الاتحادية الرئاسي، ولما تبين أن الرئيس مرسي أصبح يعقد اجتماعاته في قصر القبة الرئاسي نقلوا احتجاجاتهم وتظاهراتهم إلى أمام القصر الذي يفترضون أن الرئيس موجود بداخله لإسماعه أقبح الكلام، ومحاصرته بأعنف التصرفات.
والغريب أن هناك من الصحف الجزائرية من يرى في هذه الرزانة والحلم والتسامح الذي يبديه الرئيس محمد مرسي في التعامل مع قوى المعارضة دليلا على نهاية عصر الإخوان المسلمين!
وتلتقي القوى العلمانية المعارضة في مصر لحكم الرئيس مرسي، مع رغبة القوى العلمانية في تونس المعارضة للحكومة التي تحظى فيها حركة النهضة بالأغلبية بعد انتخابات تشريعية كانت الأكثر مصداقية وشفافية منذ استقلال تونس، فهذه القوى الخاسرة في الانتخابات تريد القفز على إرادة الصندوق وحكم الشعب، وترى أن الحل يكمن في تشكيل حكومة انتقالية أو حكومة إنقاذ وطني، أو حكومة كفاءات، وأيما كانت التسميات فالمهم هو أن تكون وليدة إرادة الطبقة السياسية، وليس نتيجة الإرادة الشعبية. واستغلت فرنسا التي أصبحت لا تتورع عن التدخل العسكري السافر، والتدخل السياسي المباشر في شؤون دول مستعمراتها السابقة، في إفريقيا، والمغرب العربي، الاغتيال الوحشي للمعارض التونسي شكري بلعيد، وهو الاغتيال الذي أدانته كل القوى السياسية التونسية وتشكيلات المجتمع المدني وفي مقدمتها حركة النهضة، ذات الأغلبية في التشكيلة الحكومية والمجلس التأسيسي، استغلت فرنسا رفض الرأي العام التونسي والعربي والدولي لتلك الجريمة النكراء لتكشف عن كرهها التاريخي للإسلام، وتلصق صفة الفاشية بالحركات الإسلامية، وتحرض على حركة النهضة التي حرمتها من استمرار حليفها الوثيق أو عميلها الوفي الرئيس الهارب زين العابدين بن علي في السيطرة على مقدرات الشعب التونسي، ونتذكر جميعا أن فرنسا ظلت حتى آخر لحظة متمسكة بمساندة نظام بن علي، وكانت وزيرة خارجية فرنسا ميشال آليو ماري تعرض على النظام المنهار تحت تصاعد ضغوط الغضب الشعبي ،المساعدة الأمنية للقضاء على الثورة التونسية.
ولم تتردد جريدة جزائرية كانت سباقة لاستضافة رموز حركة النهضة التونسية مثل الشيخ راشد الغنوشي، والشيخ عبد الفتاح مورو، وحتى الرئيس التونسي السيد منصف المرزوقي، وتحبير مقالات الإشادة بالثورة التونسية عندما كانت أغلب وسائل الإعلام في العالم تتنافس على متابعة أخبار الثورة التونسية التي قادت قطار ثورات الربيع العربي، وكان الحصول على حوار أو تصريح من أحد زعماء النهضة أو رموز الثورة يشكل صيدا صحفيا ثمينا، لم تتردد هذه الجريدة الجزائرية في كتابة خبر يزعم أن رئيس الحكومة التونسية السيد حمادي الجبالي “استنجد” بالجزائر لوقف ضغوط زعيم حركة النهضة الشيخ راشد الغنوشي عليه لثنيه عن فكرة تشكيل حكومة تقنوقراط، التي أعلن عن نيته في تشكيلها، ولا أدري إن كان كاتب هذا المقال يعرف بأن أبجديات السياسة الخارجية الجزائرية هي عدم التدخل في الشؤون الداخلية للغير، وأن السيد حمادي الجبالي يملك من صدق الوطنية وسعة الدراية السياسية ما يزجره عن السماح لنفسه بتحويل تونس إلى ساحة للتدخلات الخارجية، والضغوط الإقليمية من أجل الاحتفاظ بمنصب رئيس الحكومة.
والسؤال المهم هو من المستفيد من فشل أو إفشال تجربة التحول الديمقراطي، وتفتح زهور الربيع العربي؟!