نحو مؤسسة من أين لك هذا… يا هذا؟؟؟/الدكتور فارس مسدور
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ” لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعِ خِصَالٍ : عَنْ عُمُرِهِ ، فِيمَ أَفْنَاهُ ؟ وعَنْ شَبَابِهِ ، فِيمَ أَبْلَاهُ ؟ وَعَنْ مَالِهِ ، مِنْ أَيْنَ اكتَسَبه ؟ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ ؟ وَعَنْ عِلْمِهِ ، مَاذَا عَمِلَ فِيهِ ؟ ” هذا الحديث العظيم يفترض أن يكون عنوانا لحياتنا كمسلمين، نجعله أداة لتصويب أخطائنا وتحديد أهدافنا ومراجعة أعمالنا قبل لقاء ربنا، والشاهد في هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه… فهل سألنا أنفسنا هذا السؤال الآن ونحن أحياء قبل لقاء الله تعالى؟
في بلادنا قلّما تُسأل من أين لك هذا؟ لكن في البلاد التي لا تدين بدين الاسلام يجب أن تبرّر من أين لك هذا؟ وإلا فإنك ستخضع للمساءلة القانونية والمتابعة القضائية بتهمة الاكتساب غير المشروع، وعندها ستتذكر رغما عنك من أين اكتسبت المال.
نحن أمة وضع لها نبيها صلى الله عليه وسلم قواعد الحكم الرشيد والتي تعتمد على هذا السؤال العظيم: من أين لك هذا؟ وأتذكر هنا ذلك الحديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: ” مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَلٍ ، فَكَتَمَنَا مِخْيَطًا، فَمَا فَوْقَهُ فَإِنَّهُ غُلٌّ يَأْتِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ” ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ أَسْوَدُ ، كَأَنِّي أَرَاهُ ، قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، اقْبَلْ عَنِّي عَمَلَكَ، قَالَ : ” وَمَا بَدَا لَكَ ” ، قَالَ : سَمِعْتُ الَّذِي قُلْتَ ، قَالَ : ” وَأَنَا أَقُولُ بِذَاكَ : مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ عَلَى عَمَلٍ فَلْيَجِئْ بِقَلِيلِهِ ، وَكَثِيرِهِ ، فَمَا أُوتِيَ مِنْهُ أَخَذَ ، وَمَا نُهِيَ عَنْهُ انْتَهَى “…أليس هذا هو أرقى تطبيق للحكم الراشد؟ فلماذا ندير ظهورنا لكل هذا الرصيد الحضاري الذي أبهر الغرب وأخذوا به وقنّنوه بينما نحن في بلادنا أصبح الذي لا يمدُّ يده للمال الحرام هو الحالة الشاذّة، بل يعتبرونه أبلهًا لا يعرف مصلحته.
عندما تطالعك صفحات الجرائد (النزيهة) عن الفضائح المالية في بلادنا والتي أصبحت تحسب بملايين الدولارات بعد أن كنا نسمع فقط بملايين الدينارات وملاييرها، عندها تدرك أن “المقريزي” كان محقا عندما قرر أن من أبرز أسباب الأزمات الاقتصادية وانهيار أنظمة الحكم فساد السلطان والحاشية.
والحقيقة علينا أن لا نتعجب من وصول الاختلاسات إلى ملايين الدولارات أو ملياراتها، لأننا رأينا ما يناله المختلسون والفاسدون من أحكام قضائية تأخذ بعين الاعتبار الظروف التخفيفية والاجتماعية الصعبة للمختلس فيحكم له ببضع سنوات يخرج بعدها مليارديرا عظيما يستثمر ما اختلسه في مشاريع تفيد الأمة وتعوضها عما اختلسه.
لذا نحن لا نسأل الناس في بلادنا من أين لك هذا؟ ما داموا يستخدمون تلك الأموال في الترقيات العقارية، والاستثمارية الداعمة لإنتاج السيارات في بلاد كانت بالأمس تستعبدنا، أو إقامة النشاطات التجارية المكثفة مع بلاد يأكل أهلها الجرذان والصراصير والقطط والكلاب ويعبدون الأصنام، ونحاول نحن بما أوتينا من مختلسين رفع الغبن عنهم ومكافحة البطالة في بلادهم عن طريق توفير مناصب شغل لهم عندنا في بلادنا وحتى في بلادهم.
إني أحلم “بساحة إعدام الخونة والفاسدين…” التي تعتبر الحل الوحيد والأوحد لضمان التطبيق السليم لمبدأ من أين لك هذا؟ ساحة الاعدام التي تكون مصير كل خائن مختلس لأموال الأمة وثرواتها، حتى لا يترك له المجال للتمتع بما اختلسه وإطلاق تلك الابتسامات الخبيثة في وجه شعب يكاد يموت من “القنطة” وهو يرى الفاسدين يعيثون خرابا في اقتصاد البلد دون حساب ولا عقاب.
ما أحوجنا إلى وسيلة إعلامية لنشر صور وقضايا الفاسدين المختلسين ومساءلتهم أمام الملأ، حتى يتّعظ كل من تسول له نفسه السير في طريق الفساد واختلاس أموال الأمة، لكننا في بلادنا نعتمد على قاعدة راقية تسخدم في غير محلها: عفى الله عما سلف.
قال الله تعالى {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء:58] ،
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله سائل كُلَّ راعٍ عَما استرعاه، أَحَفِظَ ذلك أَمْ ضَيّعه؟ حتى يسأل الرّجُلَ عن أهل بيته»
إن الفاسد لو وجد من يقف في وجهه ما كان ليستمر في النهب دون مبالاة، وعليه فإننا نتحمل جميعا مسؤولية انتشار الفساد في بلادنا ما دمنا نسكت على الباطل ونرى النهب والاختلاس ونسكت عنه.
إن الفساد سيزداد قوة وانتشارا ما دمنا لم نفعِّل مؤسسة ” من أين لك هذا؟” وسيستمر الفاسدون في نهب وهدر واختلاس ثروات الأمة دون رادع ودون رقيب أو حسيب، وكأن منظومة القضاء في بلادنا تقول للفاسد: ابحث عن الثغرات القانونية واستفد منها فهي حماية لك، ولن يسألك أحد من أين لك هذا… يا هذا؟ فحسبنا الله ونعم الوكيل على منظومة حماية الفساد والمفسدين في بلادنا…
الدكتور فارس مسدور