مصرف السلام الجزائر .. خدمات بنكية أصيلة
أحداث دوليةحدث وتعليق

من وراء اغتيال المعارض التونسي شكري بلعيد؟/وليد المالكي

TUNISإن عملية اغتيال المعارض الحقوقي التونسي شكري بلعيد، في الأيام القليلة الماضية، منعرج خطير في الحياة السياسية بتونس بعد سقوط بن علي، وانزلاق يهدد التجربة التي تخوضها البلاد من أساسها، لا سيما وان التجربة التونسية تعد فريدة من نوعها لم يشهد العالم الإسلامي مثلها من قبل.

إذ لأول مرة تتجسد شراكة–إذا استثنينا التجربة التركية-، يلتقي فيها التيار العلماني المتمثل في شخص رئيس الجمهورية التونسي منصف المرزوقي، والأغلبية المنتخبة والمتمثلة في التيار الإسلامي الممثَّل حركة النهضة. واغتيال شكري بلعيد العلماني المعارض في ظل هذه التجربة، لا يمكن فهمه إلا في إطار خلط الأوراق لإفشال التجربة التونسية، التي تعد إلى حد الآن من انجح التجارب الجديدة، فهي إذا ما قيست بالتجربة في ليبيا واليمن وحتى مصر وسوريا، تعد أفضل بكثير، لسبب واحد هو، أنها تجاوزت منطق الأدلجة، إلى الخطاب السياسي المرن الذي ينظر للمساحات المشتركة وينطلق من حق المواطن وواجباته في بلاده، مهما كانت معتقداته وميولاته السياسية، بعيدا عن العنف والتخوين والعمالة، أكثر من تركيزه على الفوارق الفكرية والثقافية، وهي بادرة تذكرنا بما كانت عليه الحركة التحررية الوطنية خلال الفترة الاستعمارية في المغرب العربي وفي غيره من البلاد الإسلامية.

ولكن الممارسة السياسية في بلد عاش عقودا من الزمن في ظل الظلم والاستبداد والتنكيل بالأحرار مثلا تونس، لا يمكن أن يقفز على هذا الواقع بسهولة، الواقع الذي “برمج الجميع” على منطق من الخوف يستفيد منه الذل والخنوع، أكثر مما ينتفع منه الحذر والحيطة، وإنما سيجد نفسه أمام قضايا موغلة في استسهال الأمور، شعورا بألا شر بعد سقوط بن علي؛ لأن سقوطه هو البداية والنهاية، أو استصعابها باعتبار أن  سقوط بن علي لا يمثل إلا خطوة في النهوض بالمجتمع التونسي، ومن ثم فإن التشمير على ساعد الجد في مواجهة التحديات الواقعة والمحتملة هو الضامن الوحيد لاستمرار عملية الإصلاح في تونس، وبين هذين المستويين مستويات كثيرة، تبدأ أيضا من اعتبار أن التيار العلماني هو مشكلة المشكلات، وانتهاء بعدِّ التيار الإسلامي هو مصيبة المصائب، في حين أن الخطوة التي قامت بها الطبقة السياسية في تونس وتوصلت إلى شراكة سياسية بين التيارين العلماني والإسلامي، هي في ذاتها مكسب صالح لاعتباره أرضية تجمع التونسيين على بناء مشروع مجتمع مستقل وتحرُّر من بقايا العداوات التقليدية، التي يفرض منطق الواقع وتحدياته تجاوزها.

واغتيال شكري بلعيد العلماني، لا يمكن عزله عن هذا الواقع، الذي هو ليس صراعا بين فئات متنازعة، بقدر ما هو مشروع سياسي يحمل في طياته بذور النجاح؛ لأن الاغتيال السياسي مدان بكل المقاييس، مهما كان المغتال سيئا، ومهما كانت خطورته على البلاد والعباد؛ لأن الاغتيال خروج عن الشرعية وفتح لباب الفوضى، وهذه الإدانة لا يمكنها أن تتجه إلا إلى السلطة، المتمثلة في الشراكة الإسلامية العلمانية، ومن ثم فإن المدان والمطالب بدم الرجل، هو بالأساس رئيس الجمهورية الذي هو من التيار العلماني، مثلما كانت تقول المعارضة عن بن علي وبورقيبة، ومع ذلك لاحظنا أن وسائل الإعلام التغريبية، ذهبت مباشرة إلى اتهام التيار الإسلامي، بينما الذي يبدو من سياق الأحداث أن الذي وراء عملية الاغتيال، جهة تعمل على إفشال التجربة، والتأثير السلبي على الجهة المؤثرة في الأحداث، فإفشال التجربة يعني تحميل السلطة وعلى رأسها رئيس الجمهورية منصف المرزوقي، والجهة المؤثرة حركة النهضة، إذ أن الاغتيال جاء بعد جملة من التشهير بمخالفات ألصقت بالتيار الإسلامي السلفي، من طمس قبور وتحطيم زوايا، وبعث فتاوى التكفير والتبديع؛ بل والاعتداء على واحد من رموز التيار الإسلامي وهو الشيخ عبد الفتاح مورو..

ذكرني هذا الاغتيال باغتيال سياسي سجله التاريخ التونسي، وهو اغتيال الزعيم التونسي الكبير السياسي المثقف، صالح بن يوسفـ، الذي اغتيل سنة 1961، في فرانكفورت بألمانيا. هذا الرجل من البقايا النادرة للحركة الوطنية التونسية الصادقة، وكان معارضا شرسا لبورقيبة؛ بل متهما إياه بالخيانة العظمى وبعميل الغرب وعدو العروبة والإسلام، وهذا الاتهام لبورقيبة لم يطلقه بن يوسف بعد تولي بورقيبة السلطة، وإنما كان في سنة 1955، عندما وافق بورقيبة على الاستقلال الداخلي سنة 1955.، وبقي الرجل معارضا وحاثا أتباعه الذين عرفوا فيما بعد بالـ”يوسفيين” على مواصلة الجهاد المسلح لمقاومة الاستعمار الفرنسي وتحرير المغربي العربي الكبير، إلى يوم اغتياله في أوت 1961.

فحاولت مقارنة هذا الاغتيال بذاك، منطلقا من كون الاغتيال السياسي في جوهره تقوم به جهة بهدف إسكات الخصم، وهو بهذا الوصف ينطبق على اغتيال صالح بن يوسف، الذي كان معارضا لبورقيبة، رغم أن نظام بورقيبة لم يتبن الاغتيال، ولكن طبيعة نظام بورقيبة المسند من طرف الغرب، وطبيعة معارضة بن يوسف بجذورها الثقافية والحضارية، لا تسمح بالاتهام لغير نظام بورقيبة، سواء بطريقة مباشرة أو بتدبير من الغرب نفسه الذي انتدبه لحكم تونس، ولا يجد الملاحظ صعوبة في تحديد الجهة التي المسؤولة عن هذا الاغتيال، لما بين الطرفين –بورقيبة وبن يوسف- خلافات جوهرية وتباين في تشخيص الموقف من الاستعمار أصلا.

أما في الحالة الثانية وهي حالة اغتيال شكري بلعيد فالأمر مختلف، إذ الرجل معروف بنضاله القديم ضد النظام السابق، وهو كذلك معارض شرس للنظام القائم في تونس، وإذا كانت أصابع الاتهام متجهة مباشرة إلى السلطة، أو إلى الإسلاميين باعتباره علمانيا، إلا أن الواقع السياسي في تونس وطبيعة التحولات التي يشهدها، لا تؤيد هذا الرأي لأن الرجل يشفع له نضاله في مقاومة فساد النظام السابق، وفي انتظار ما ستكشف عنه الأيام، تبقى مواطن الظل في الموضوع غير ظاهرة.

وحتى إذا افترضنا جدلا أن اجترار الخلافات التاريخية بين الإسلاميين والعلمانيين، يمكن أن يتسبب في عملية الاغتيال هذه، فإن الأمر يبقى مستبعدا في تونس؛ لأن الشعب التونسي من ناحية هو شعب مسالم ومن الشعوب البعيدة عن العنف، ومن ناحية أخرى فإن تجربة “الترويكا” التي اهتدت إليها الطبقة السياسية في تونس، تعد تجربة بديعة في ردم الهوة التي بين الإسلاميين والعلمانيين، وهي مرشحة للتغلب على التحديات.

وعليه فإن هذا الاغتيال لا يمكن ان يقرأ إلا في إطار “التخلاط” الذي يهدف إلى تمزيق الممزق وتشتيت المشتت، والوقوف في وجه كل محاولة تعمل على رأب الصدع بين فئات المجتمع الواحد الذي هو مختلف بطبيعته.. فهو علماني وإسلامي، والعلماني لبيرالي ويساري، والإسلامي سلفي وصوفي ومعتدل، وتربوي دعوي وسياسي، ووطني قومي وأممي عولمي، وهلم جرا….

والمراد للشعوب العربية والإسلامية هو أن تبقى منشغلة بمعالجة ما اختلفت فيه، أكثر من التفكير والتطلع إلى بناء ينطلق من المتفق عليه، وإلا فإنها ستنطلق من عقالها، وهذا لا ترضى به قوى الغرب المتغطرس، فاليد التي اغتالت بن يوسف ليثبت نظام بورقيبة ويستمر، هي نفسها اليد التي اغتالت شكري بلعيد، مع فارق هو أن اغتيال بن يوسف أريد به إسكات المعارض، بينما اغتيال بلعيد هو لإغراق البلاد في المريد التعمية والإبهام، لإشغال المجتمع التونسي عما ينفعه؛ لأن السطحية في معالجة الموضوع سوف تساعد على المزيد التعمية والإبهام ومحو أثر الجريمة حتى تبقى معدة لإلصاقها بأي كان من الناس.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى