القرآن والسياسة – 02/ أ.عبدالقادر قلاتي
يبرر الفكر العربي المعاصر المعادي لفكرة مرجعية الإسلام للدولة، بأن نصوص القرآن التي تبدو واضحة الدلالة عند من يسمونهم بأصحاب مشروع الإسلام السياسي، لم تكن صريحة في التأسيس لنظرية في السياسة والحكم، بل إن هذه النصوص- بحسب هذه القراءات- جاءت “ساكتة” غير صريحة، وإنما الذي أنطقها هو مجمل تلك الشروح والتأويلات الفقهية لها، وأن المخرج من هذا الحرج المعرفي؛ هو إعادة قراءة القرآن في لحظته النصية الأولى، قبل أن تطاله القراءات والتأويلات الفقهية التي ارتبطت تاريخيا بالسلطة الحاكمة، أو تلك القراءات التي مثلتها المعارضة في هامش السلطة الفعلية، طبعا تستحضر هذه الرؤية -العلمانية- تلك المرحلة التي عرفها تاريخنا الإسلامي، بعد وفاة النبي -صلي الله عليه وسلم- وذلك الخلاف الذي صاحب لحظة انقطاع الوحي بوفاته -صلى الله عليه وسلم- وبداية بروز شكل جديد للدولة التي كان النبي -صلى الله عليه وسلم- هو الحاكم الفعلي فيها، لتبدأ الخلافة الراشدة التي عرفت في نهايتها ذلك الخلاف، الذي أفرز قراءتين متوازيتين لمسالة الحكم والسياسة، عرفتا في الفكر السياسي الإسلامي، بنظرية الخلافة عند السنة، ونظرية الإمامة عند الشيعة، ودليل ذلك -بحسب الرؤية العلمانية- أن القرآن فيما نص عليه من نصوص قريبة من المعطى السياسي، لم يتناول لا مسألة الخلافة ولا مسألة الإمامة، بالصراحة التي سوقتها نصوص اخترعها الطرفان من أجل دعم هذه التأويلات السياسية، وبالتالي فإنه من الضروري دفع مسألة الحكم والسياسة برمتها لحركة التاريخ والواقع الإنساني المتغير، ولا نحمل القرآن ما لم يحتمل من هذه الشروح والتأويلات السياسية.
والحق أن هذه الرؤية النقدية جانبها الصواب فيما وجهته من نقد لنظرية الإمامة عند الشيعة، وأخفقت إخفاقا كبيرا فيما وجهته من نقد لنظرية الخلافة عند السنة، فمن يقرأ التاريخ الإسلامي ويقف عند الخلاف بين الصحابة في مسألة الحكم والسياسة، يدرك بوضوح كيف نشأت نظرية الإمامة في الفكر السياسي عند الشيعة الإمامية، وكيف اكتمل بنيانها المعرفي.
لقد قامت هذه النظرية على مجموعة من التأويلات الباطنية للنص القرآني، وتحميله لدلالات متكلفة لا يمكن أن يتحملها السياق الموضوعي للآيات التي تناولت -بحسب هذه التأويلات- قضية الإمامة، في الوقت الذي جاءت آيات واضحة الدلالة اللغوية في مسائل أخرى، لا تحتاج إلى تأويل لا تتحملة اللغة العربية التي حوت النص القرآني، فلو أخذنا مسألة النبوة مثلا، كيف تناولها النص القرآني، نجد أن سياق الآية لا يتحمل إلا قراءة واحدة لفهمه، يقول الله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً…} ، هل يمكن أن نفهم من هذه الآية غير ما اقتضاه السياق العام لها، وهو أن النبوة هي المنصب الوحيد الذي يؤهل صاحبه لحمل الرسالة، فلو أن منصب الإمامة بهذا القدر من الأهمية ضمن أصول وأركان الإسلام لجاء النص واضح الدلالة على هذه المسألة، لا يحتاج إلى تأويل أو تفسير يتجاوز اللغة التي حوت النص التأسيسي، ولكنها مسألة مستحدثة أفرزها جدل والسياسة، والخصومة التاريخية المعروفة التي مازلت تصاحب الأمة إلى يوم الناس هذا.
إن ما يدعو للغرابة والتعجب في هذه النظرية، ليس منطق الحسم بالنسبة لأحقية الإمام بمنصب الحاكم بعد النبوة، بل العجب كل العجب أن تكون الإمامة بمكانة النبوة، فالإمام ليس بشرا عاديا تختاره جماعة المسلمين، وإنما هو مختار من قبل الله تعالى، فهو لا يمارس سلطة زمانية، كما هو الحال في نظرية الخلافة عند السنة، وإنما يمارس سلطة نبوية الفارق فيها أن الوحي يتنزل على الإمام المعصوم في صورة أخرى، تفصلها هذه الرواية المنقولة عن الكليني عن علي بن موسى الرضا يقول: “الفرق بين الرسول والنبي والإمام، أن الرسول هو الذي ينزل عليه جبريل فيراه ويسمع كلامه وينزل عليه الوحي وربما رأى في منامه نحو رؤيا إبراهيم، والنبي ربما سمع الكلام وربما رأى الشخص ولم يسمع، والإمام هو الذي يسمع الكلام ولا يرى الشخص“، ولا ندري كيف يكون نص بهذا الضعف، وبهذه الاستهانة بأصول الإسلام الكبرى مقبولا عند العقل الشيعي الذي يعمل ليل نهار على تسويق نظريته السياسية المتهافتة.
يتبع