الدكتور نضال قسوم:الثقافة العامة السائدة لا تشجع على العلم

حسب عالم الفلك الجزائري والباحت السابق في وكالة ناسا، نضال قسوم، هناك عدة عوامل تساهم في تدني المستوى التعليمي الملحوظ في الجزائر، كالطرق البيداغوجية، والموارد، وتكوين وإعادة تأهيل الاساتذة، وإمتلاء الصفوف الدراسية ، ومشكل الرواتب وغير ذلك. زد على ذلك أن “الثقافة العامة السائدة لا تشجع على العلم”.
كتبت مؤخرا مقالا عن تقرير TIMSS 2011. هل يمكن إعطاءنا نبذة عن هذا الإختبار؟
أولاً TIMSSهو إختصار للجملة “دراسة التوجهات للرياضيات والعلوم العالمية”، وهو إختبار عالمي في الرياضيات والعلوم، يبرمج كل أربع سنوات وهو موجه إلى تلاميذ السنوات الرابعة والثامنة. في سنة 2011 شارك فيه تلاميذ من 50 بلد، بما في ذلك 10 دول عربية، وكانت نتائج هذه الدول العربية تحت المستوى، إذ احتلت ذيل الترتيب في كل الإختبارات تقريبا!
كيف تفسر التفاوت في النتائج، بما فيها الدول المتطورة مثل الولايات المتحدة الامريكية ؟
من المؤكد أن ثمة عدة عوامل، بالرغم من أن الطرق التعليمية أساسية في المسألة ولكنها ليست الوحيدة، إذ هناك أيضا عامل الموارد (البشرية والمادية)، والأنظمة الادارية، والسياسة العامة (مركزية وغير مركزية، إلخ)، وكذلك تكوين وإعادة تأهيل الاساتدة، إلى غير ذلك من العوامل.
أين تكمن الكفاءة العالية في الطرق التعليمية المنتهجة في سنغافورة في تدريس الرياضيات والفيزياء؟
طلاب سنغافورة لا يزالون يحتلون المراكز الأولى في مثل هذه الاختبارات والمسابقات الدولية في العلوم والرياضيات. لذلك شرع الخبراء (الأمريكيون على وجه الخصوص) مؤخرا في النظر بإمعان في طرق تدريس الرياضيات والعلوم في سنغافورة.
وقد تبيّن أن الخاصية التي تميّز تلك الطرق هي قلة المواد التي يجب أن يغطيها الاساتذة، على عكس ما يحدث في منطقتنا (بما فيها الجزائر)، فطلاب سنغافورة يتعلمون بعض المواضيع والمفاهيم، ولكن تلك المواضيع تستكشف بآليات متعددة ومتنوعة (تجريبية، بيانية، حسابية، الخ) حتى يتم إتقانها تماماً. وعندها فقط يتحول الاستاذ إلى شرح تلك مفاهيم أكثر تجريدا التي تبنى عليها النظريات.
سمة أخرى أساسية في الطرق المنتهجة في سنغافورة هي الإستعمال المكثف للأمثلة البيانية (الرسومات والأشكال)، يتعلم التلميذ من خلالها أهمية تمتيل المسائل، مما يسمح لهم بربط وإيجاد العلاقات بين المتغيرات والمقادير، وبالتالي تساعد الطلاب على إيجاد حلول مبتكرة في كثير من الأحيان. وهذا يساعد على تطوير الإبداع لدى التلميذ والطلاب بدلا من التطبيق الميكاني للوصفة التي تكون قد درست من قبل…
هل نستطيع تبني (إستيراد) مثل هذه الطريقة إلينا ؟
الأمر لا يكمن في التبني الأعمى لأي شيء. يجب علينا أولاً معرفة ما يتبيّن أنه ناجع، ومن ثم الاستلهام منه وخلق أفكار جديدة في مناهجنا التعليمية. عندها، ما يحدث عادة هو تطبيق تلك الطرق الجديدة على المدارس الرائدة أولاً، ثم تعميمها على المدارس الأخرى في حالة نجاحها وثبوت انتاجيتها.
هذا يتطلب إذن موارد مادية إضافية وتدريب نوعي للمعلمين.
الموارد المادية ليست ضرورية دائما. في هذه الحالة بالذات (إدخال الطرق البيانية)، هذا يتطلب تعديل البرامج والكتب المدرسية، وهذا في حد ذاته يتطلب ميزانية معيّنة، وهي ليست بالضرورة عالية جدا في المرحلة التجريبية ، بالطبع، التدريب المستمر المعلمين شيء ضروري حتى يتسنى لهم مواكبة التطورات، البيداغوجية والتقنية (الرقمية خاصة)، التي أصبحت في يومنا هذا ضرورية للغاية .
أنتم تقولون يا أستاذ أن المسؤولين الأمريكيين خائفون من ظهور فجوة بين الطلاب الأسيويين والطلاب الأمريكيين.
نعم، أعرب مسؤولون أميركيون عن قلق بالغ بشأن هذا التفاوت المتزايد بين الطلاب الأمريكيين وأقرانهم الأسيويين .فهم يعتقدون أن هذا يمثل خطرا حقيقيا بشأن مستقبل الاختراعات في مختلف المجالات، التي ستهيمن عليها قريباً البلدان الآسيوية، إذا استمر الموضوع على ما هو عليه منذ سنوات. وإذا حدث هذا، فإن الولايات المتحدة (ومعظم أوروبا) ستفقد الكثير من الوظائف الرفيعة المستوى (بعد فقدان الوظائف ذات المستوى المنخفض)، وسوف تهيمن آسيا على الشركات المبتكرة.
حدثنا من فضلك عن “مقاييس العلوم للجيل القادم” (NGSS) الذي وضع مؤخرا في الولايات المتحدة. ما هي هذه المعايير الجديدة؟
قبل بضعة أشهر، وضع المجلس الوطني للبحوث (NRC) في الولايات المتحدة خطة مفصلة لتدريس العلوم، بعنوان “مقاييس العلوم للجيل القادم” (NGSS)، .هي عبارة عن معايير تدريس العلوم للجيل للقرن الواحد والعشرين.
أولاً ، تؤكد الخطة على أهمية المبادئ الأربعة التالية: التواصل، والتعاون، والإبداع، والتفكير النقدي. كما يتم التأكيد على أن عملية البحث العلمي هي جهد جماعي، ويجب ترسيخ هذه الفكرة منذ البداية، داخل الفصل الدراسي عن طريق النقاشات والتجارب التي تنجز من طرف مجموعات من التلاميذ، والعمل الإبداعي الذي يحصل في المجموعات.
ثانياً، تركز الخطة على إدماج الثورة الرقمية في التدريس، عن طريق تزويد القاعات بالانترنت وتوسيع نطاق التعلم إلى المنزل وأمكنة أخرى، حيثما يستطيع التلميذ التعلم.
ثالثا، يتم إدماج الهندسة مع العلم ، وذلك بإدماج “التصميم” في كل المواد من خلال تصميم التجارب، تصميم النمادج، تصميم برامج الكومبيوتر، الخ.
وأخيراً، يقترح المجلس الوطني للبحوث (NRC) تغيير مفهوم “الكفاءات” التي يجب أن يكتسبها الطلاب بـ”العادات العلمية”، بمعنى تعليم الطلاب الطرق المنتهجة من طرف العلماء في أبحاثهم، وليس “المنهج العلمي” الساذج الذي ندرّسه عادة.
في رأيك ، هل يجب إدراج تاريخ العلوم في المناهج الدراسية؟
بدون أدنى شك! خطة NGSS تلحّ على أن تاريخ العلم ينبغي أن يكون جزءا لا يتجزأ من تدريس العلوم، بحيث يتبيّن للتلميذ كيف قام غاليليو، باستور، دالتون، لافوازييه، وآينشتاين، وهابل باكتشافاتهم، كيف فكروا، وكيف يتم الخروج بأفكار مبدعة… ويجب أن نضيف الى تلك القائمة (الطويلة) علماء مثل ابن الهيثم، الذين كانت طرقهم – منذ ألف سنة – تعتبر حديثة جدا.
نعتقد عموما، وهذا ليس خاصا بالجزائر، أن معلمي الرياضيات لايترددون في استخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات؟ ما رأيك؟
أولاً ، للأسف الجزائر لم تشارك في طبعة 2011 من إختبار TIMSS. في عام 2007، احتل التلاميذ الجزائريون المراتب الثلاثة الى العشرة الأخيرة من بين الأربعين الى خمسين شاركت (حسب الإختبار). وقد تبيّن حينئذ نفس التدني في مستوى العلوم والرياضيات (في الجزائر). إذن لا اظن أن المسألة منحصرة في الرياضيات. والأهم من ذلك أن المسألة ليست قضية إستعمال تكنولوجيات المعلومات، انما المشكل في البيداغوجيا والموارد وتكوين وتأهيل الأساتذة وعدد التلاميذ في القاعات والرواتب، إلخ.
مع ذلك، فإن الجزائر كوّنت نخبة من الرياضيين والمختصين في الإعلام الآلي في السبعينيات والثمانينيات، ماذا حدث بعد ذلك ؟
الجزائر لا تزال وبالتأكيد تكوّن مختصين في المعلوماتية ورياضيين ذوي مستوى عال، إلا أنها ليست بأعداد كبيرة. المسألة ليست هنا. المشكلة هي أوسع من ذلك بكثير. من الملايين من الطلاب الذين نكوّنهم، هل نجحنا في غرس طبيعة وممارسة العلوم والرياضيات بطريقة مقبولة، بحيث تؤدي إلى الاختراعات وإيجاد حلول للمشاكل التقنية التي نعاني منها؟ هل نجحنا في غرس الفضول وروح الإكتشاف؟ هل نجحنا في إنتاج البحوث العلمية(كماً ونوعا… إلخ ؟
هناك عدة مؤشرات بالنسبة للجزائر وللبلدان العربية عموما تسمح لنا بالحكم أننا لم ننجح أبداً في هذه إلمهمات، وذلك لعدة أسباب منها: الطرق التعليمية، وظروف التدريس، والثقافة العامة التي لا تشجع على العلم (حيث لاعب الكرة مثلاً يستقبل بحرارة، على عكس العلماء اللامعين الذين يفترض أن يتم إظهارهم للشباب في وسائل الإعلام كنموذج يقتدى به) وما إلى ذلك .
هل أن لغة التدريس (العربية) هي سبب هذا التراجع؟
اللغة العربية كانت قاعدة الحضارة العربية الاسلامية، بما فيها المجالات العلمية. بل يوجد مؤرخون يرجحون أن الحضارة العربية ازدهرت بفضل مرونة اللغة العربية القابلة لنحت الألفاظ الجديدة وتقديم المفاهيم المعقدة والمناقشات العلمية. بالإضافة إلى ذلك، اليوم أنا لا أعرف أي مؤرخ أو أستاذ في علم الاجتماع من يربط التنمية العلمية والتقنية لمجتمع ما بلغة قومه. الإسرائيليون قاموا ببعث لغة (العبرية) كانت ميتة ويتم استعمالها في تدريس الفيزياء الكمومية في جامعاتهم، وثلاثة منها هي من ضمن أحسن 100 جامعة في العالم ! في حين لا جامعة عربية من بين الـ200 أفضل جامعة، وقليل جدا من الجامعات العربية التي تدرّس العلوم باللغة العربية !
درست في الجامعات الجزائرية وفي الخارج. إلى ماذا يرجع التفاوت في المستويات: الطالب، الأستاذ، المناهج الدراسية، الجامعة والبيئة، الظروف الاجتماعية، أم ماذا ؟
أعتقد أن الأمر مرتبط بالبيئة الجامعية عموما وبالإدارة الصارمة للمنظومة الأكاديمية (كما هي مطبقة في الولايات المتحدة خاصة وفي منطقة الخليج، التي أعرفها جيدا)، وهناك أيضا نوعية الكتب (التي يتم تحسينها وتحديثها باستمرار)، وصرامة الامتحانات، والعلاقة الجيدة بين الأساتدة والطلاب (يتواجد الأساتذة بأوقات كافية في مكاتبهم للإجابة على اسئلة الطلاب)، وما إلى ذلك.
الأستاد نضال قسوم
عالم الفيزياء الفلكية، دكتوراه في جامعة كاليفورنيا في سان دييغو، قضى عامين كباحث في مركز غودارد للرحلات الفضائية التابع للوكالة الأمريكية NASA. وهو حاليا أستاذ الفيزياء ونائب عميد كلية الآداب والعلوم بالجامعة الأميركية في الشارقة في دولة الإمارات العربية المتحدة.
*ترجمة حوار يومية وهران مع الباحث الدكتور نضال قسوم ،المنشور يوم 2013/02/06